على مدى عدة أيام متتالية، في الربع الأول من شهر يوليو 2017ـ شهدت مدينة هامبورغ الألمانية تظاهرات واحتجاجات هي الأضخم والأعنف ضد سياسات العولمة الرأسمالية المتوحشة، منذ الاحتجاجات التي عمت المدن الأوروبية اثر اندلاع الأزمة المالية عام 2008 والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الأميركية الرأسمالية لحماية المصارف المفلسة، ورفعت خلال المظاهرات شعارات تندد بالأنظمة الرأسمالية وسياساتها القائمة على النهب.
وجاءت هذه الاحتجاجات الشعبية الصاخبة والعنيفة على هامش انعقاد قمة العشرين، لتعكس عودة الحضور القوي لهذه الاحتجاجات التي بدأت في سياتل ضد السبعة الكبار عام 2000، والتي تضم حركات وقوى يسارية وبيئية وشعبية مناهضة للعولمة الرأسمالية المتوحشة، والداعية لإنهاء الديكتاتورية المالية العالمية التي تسيطر على العالم بوساطة الشركات الرأسمالية المتعددة الجنسيات والصندوق والبنك الدولي، وتطالب بديلا عنها بعولمة إنسانية تسودها العدالة والمساواة وخالية من الاستغلال والاضطهاد والقهر الاقتصادي والاجتماعي.
ولوحظ، بعد فترة من التراجع التي سادت هذه الاحتجاجات، أن حجم وقوة المشاركة فيها هذه المرة كانت كبيرة، حيث قدرت أعداد الذين شاركوا في التظاهرات والمواجهات بنحو مائة ألف، وهو ما دفع الشرطة الألمانية لأن تحشد أكثر من عشرين ألف شرطي لاحتواء هذه التظاهرات والاحتجاجات وحماية القمة والمشاركين فيها. ولذلك فإن الدلالة المهمة لهذه الاحتجاجات تميّزت بحجمها وقوتها.
والأسئلة التي تطرح في هذا السياق هي:
ما هي الأسباب التي جعلت الاحتجاجات تعود لتبلغ هذا المستوى من المشاركة والقوة؟
وما هو تأثيرها على الواقع السياسي والاقتصادي والاجتماعي في الدول الرأسمالية الغربية؟
وبالتالي ما هي آفاق هذه الاحتجاجات؟
أولاً: على صعيد الأسباب، تعود أسباب الاحتجاجات إلى تفاقم الأزمات الاقتصادية والمالية والاجتماعية الناتجة عن سياسات العولمة الرأسمالية المتوحشة (انتشار البطالة على نطاق واسع وبلوغ نسب البطالة نسبا غير مسبوقة تجاوزت العشرة بالمائة لتصل في بعض الدول إلى 19 بالمائة، فيما يجري انقضاض على مكتسبات الطبقة العاملة، وتراجع في مستويات المعيشة، وهذا أدى إلى زيادة حدة التفاوت الاجتماعي وعودة تفجر الصراع بين الطبقة العاملة وأرباب العمل الرأسماليين الذين يسعون إلى الحفاظ على أرباحهم المتراجعة بفعل تدني معدلات النمو، عبر إعادة النظر بقوانين العمل وتقليص التقديمات الاجتماعية.
ثانياً: على صعيد تأثيرها، من الطبيعي أن يؤدي هذا التدهور في الأوضاع الاجتماعية إلى زيادة المشاركة الشعبية في الاحتجاجات ضد سياسات العولمة الرأسمالية المتوحشة التي تقف وراء هذه الأزمات، وأن تؤدي كذلك إلى تنامي قوة الحركات اليسارية، التي تتصدى لهذه السياسات، ومن الطبيعي أيضاً أن ينعكس ذلك على الواقع السياسي والاجتماعي، حيث يتوقع المراقبون تحولاً في اتجاهات الرأي العام، وأن يظهر هذا التحول في الانتخابات الألمانية المقبلة.
ثالثاً:على صعيد الآفاق، من المتوقع على ضوء مؤشرات تفاقم الأزمات الاقتصادية والاجتماعية المتولدة عن السياسات الرأسمالية الليبرالية المتوحشة، أن يزداد حجم المعارضين لمثل هذه السياسات وبالتالي حجم المؤيدين للحركات اليسارية والمعارضة للعولمة الرأسمالية، وهو الأمر الذي سيجعل من هذه الحركات قوة مؤثرة في الحياة السياسية الغربية، لكن ذلك مؤشر على تفاقم حدة الصراع الطبقي والاستقطاب الاجتماعي. فمع انسحاق الطبقة الوسطى الضامنة للاستقرار الاجتماعي، أصبحت المجتمعات الرأسمالية تتجه سريعا نحو الاستقطاب الحاد بين طبقتين، طبقة رقيقة من الأثرياء المستحوذين على الثروات والذين يتنعمون بها ويعيشون في حالة من الترف والبذخ، وطبقة الغالبية الساحقة من الفقراء والمعوزين والمحرومين والبؤساء الذين تسحقهم الرأسمالية الليبرالية باستغلالها الذي لا حدود له. في ظل هذا الواقع الاجتماعي باتت المجتمعات الرأسمالية الغربية تفتقد للاستقرار الاجتماعي الذي ساد طوال العقود الماضية على خلفية التقديمات والضمانات الاجتماعية التي نعمت بها الطبقة العاملة والوسطى، ولا شك في أن التطورات الاقتصادية التي طرأت على الواقع الدولي وأدت إلى تقليص هوامش الأرباح والعائدات المالية التي كانت تحققها الرأسمالية الغربية بفعل هيمنتها على السوق في السابق، هي التي تقف وراء الأزمة الحالية التي تعصف بهذه الدول، فهي فقدت هذه الهيمنة وليست مستعدة لقبول تراجع أرباحها، ولهذا لجأت إلى الانقضاض على مكتسبات الطبقة العاملة والوسطى للحفاظ على مستوى أرباحها، ونتيجة هذه السياسة الرأسمالية الغربية بات الاستقرار الاجتماعي عرضة للاهتزاز.