إذَا كانَتِ الأُمُوْرُ ثلاثة: أَمْرٌ بَانَ لَكَ رُشْدهُ فَاتَّبِعْهُ، وأمرٌ بَانَ لك غيّهُ فاجتنبهُ، وأمرٌ أشكل عليك فردُّه إلى عالِمِه كما قال الإمام علي(ع) وإذا أسقطنا القاعدة الفقهية: (الأمور بمقاصدها) القائمة على أصلِ حديث النية: (إنما الأعمال بالنيات) على مواقفنا الحياتية من الأشخاص والأحداث في مجتمع ضيقٍ لا بُدَّ وأن تتجلى هذه المواقف بثلاث صورٍ تشكل زوايا مثلث متساوي الأضلاع وهي: الحياد والإنصاف والإنحياز.
فتارةً نقفُ على حيادٍ لأنَّ الأمر ببساطةٍ مشكلٌ علينا، وأحياناً ننحازُ ضِدُّهُ لأنَّ فيهِ فساداً ومهلكةً، وأُخرى نُدافع عنه إنصافاً للحقيقةِ والعدالةِ. والقضيةُ ذاتها مسحوبةٌ على الأشخاصِ بالتقسيم نفسه: فشحص لا يعنينا موقفه، وثانٍ نقفُ ضده، وآخر ندعمه ونؤيده. والميزانُ في ذلك هو نية الشخص لا سواها (حسب رؤيته)، اعتماداً على القاعدة السابقة.
في مجتمع ضيقٍ كمجتمعِ جبل محسن اعتاد ساكنوه على الخيار الوحيد وتعايشوا معه ورضوه وآمنوا فيه. ثُمَّ حُوصر نتيجة جولات العنف العبثية عدداً من سنينٍ، منع أهله من الوقوف على شرفاتِ أبنيته، وحرموا حتى النظر ولو من وراء ستارة إلى ذلك البحر الهائج الذي تُطلِّ عليه. فَضاقتْ صُدُوْرُنا، كَما ضاقت علينا البدائل، إذ لا بديل سوى التعايش مع الواقع المرير. وأكبر فسحةِ حراكٍ هي بين السواتر ليلاً ضمن كيلو متر مربع واحدٍ...
وأرقى حوارٍ ممكن أن تجريه في إحدى المقاهي المحمية من رصاصٍ أو قذيفةٍ، مع شابٍّ يائِسٍ من كُلِّ كُلِّ حياتهِ، أو موظفٍّ مُحْبطٍ من انعدامِ حظوظه، أو عسكريٍّ مقهور من إنسدادِ آفاقهِ.
هكذا كانتْ حياتنا تسير لسنواتٍ. وما زالتْ بالإحباطِ ذاتهِ.
وأُخرجتْ لنا الخطةُ الأمنية من جيبةِ ساحرهم الصغيرة، فخرجتْ معها أرانبٌ كثيرةٌ تجيد القفزَ تسليةً وبهلوانيةً.
فسارت بنا الأمور بين ثلاثِ محطَّاتٍ رئيسةٍ : سلام وحرب ثم هدوء.
ومن الطبيعي أن تتقلبَ بنا المواقف لِتَقلُّبِ الأمور بين لحظةٍ وأخرى، وما كان بالحسبان صار بخبر كان، ومن كان ضعيفاً صار سوبرمان،ومن كنا لا نسمع به صارت صوره تملأُ الجدران. وإذا كان الشاعر (كما يُقالُ): ابن بيئته، فمن أيِّ بيئةٍ سيخرج أيُّ ناشطٍ مُنفتحٍ؟. أليس من هذه البيئة بكل مظلوميتها وتناقضاتها؟
ومن البديهي، سيقف هذاالناشطُ الجديد الذي لم تنضج خبرته بعد في التعامل مع المستجدات إلا بحسن نيته ورؤيته التي قد تكون قاصرةً في أحيانٍ، وخاطئةً في مراتٍ أخرى، ومصيبةً ربما في أوقات ما: سيقف بلا شكٍ متردداً خائفاً، لأنَّ كُلَّ نجاحِهِ ستنسفه ولو كلمة بريئة في غير محلِّها.
ومن يريد الانفتاح على الجميع، فاتحاً صفحةً جديدةً مع الكل، منطلقاً مع نيَّةٍ صادقةٍ أخلصها لله، لا بُدَّ أن يصطدمَ بعثراتٍ وراءها عقباتٍ: فمن يُؤَيِّدُهُ بموقفٍ ما سيحسبه من حاشيته، ومن يُعارضُه في تصرُّفٍ ما سيصيرُ عدوَّاً له، ومن لم يكن لا هذا ولا ذاكسيُضاعُ فيه، ويقال بحقه: ما لا أذن سمعت ولا عين رأت.
قد يكون جميعهم مُصيبون والناشط المسكين هو المخطئ الوحيد، وربما الظروف هي من تتحمل مسؤولية هذا الانسداد. وغير مستغربٍ أن تكون مشكلته هي مشكلة كثيرين لا نعرفهم.
وكل ما يعرفه ويريد بيانه هذا المخلص هوأنه لا ينتمي إلاَّ لوجع هذه المنطقة الكبير وألمها الفظيع، وضد كل مصطلحات العنف وأدواته، وليس هو طرفٌ بأيِّ خلافٍ داخليٍّ أو خارجيٍّ. هذه هي قضيته الكبرى بمسلماتها الثلاثِ، مهما تعددت الآراءُ حوله، ما دام (حسب زعمه): أخلص نيته لله.
هنا يحضرني قول علامة العلويين الشيخ سليمان الأحمد (قده) (1287ــ 1361هـ):
قُلْ ما تشاءُ ولا تخفْ مِنْ ناقِدٍ فكلامُ أَكثرِ مَنْ ترى هَذَيانُ
هَيْهَاتَ يَتَّفِقُ الأنامُ عَلَى هُدَىً أَنَّى، وَلَمْ تَتَوافَقِ الأَدْيَانُ؟
مشكلتنا يا صديقي بكل اختصارٍ مع الدولة اللبنانية لا سواها، هذه الدولة التي نست وتناست هذا المجتمع بكل مؤسساتها، ولا تلحظه إلاّ وَمَضاتٍ في مَصائِبٍ.
أطبقت علينا دولتنا الكريمة، فأصبحت الحياة صعبة جداً، والوجود على شفير الانهيار. تقامر بنا دولتنا في الصفقات الداخلية والإقليمية، وتدفعنا إلى بديلٍ وحيدٍ، هي تعرفه جيداً.
وكلما تعددت البدائل تعزز معها ضمان البقاء، ولا حل معنا سوى إنتظار القرار.
لأن البديل الآخر هو نكران الذاتوالانسلاخ من الجذور: بديلٌ يزعج البال، ويعكر المزاج...
وبدلاً من أن تصدر قرارها المنتظر في إحتضان هذا المجتمع المهمش، راحت دولتنا الكريمة تبحث عن تقييده والتضييق عليه، ولم تتركْ له مجالَ تطورٍ، ولا فسحةَ تقدمٍ. إلاَّ ضمن هذا الكيلو متر المربع الواحدِ. وأذكى العباقرة تختلط عليه (في هذا الجو المخنوق): أبسط مجريات الأمور... فما بالكم به يا سادة، وهو من ناشئة القوم؟.
فـ(حياة أسير القيد لفظٌ بلا معنى) كما قال شاعرنا الكبير بدوي الجبل. ومفتاح قيدنا عند دولتنا وحدها لا سواها، فمتى تفكه يرحمها الله؟
وفي النهاية: صدقوني ابحثوا عن البدائل في كل مشاكل حياتكم، وكل علاقاتكم المستعصية، وعداواتكم الغير منطقية، ستجدون معضلاتكم أسهل ما يكون... المهم اقتنعوا بالبدائل الفضلى، لا بنقيضتها البدائل المُضرِّة.
وسلامٌ على طيبِ الكلامِ