على الرغم من أنّ مرسوم دعوة الهيئات الناخبة لم يصدر بعد، إلا أنّ طبول المعركة الانتخابية الفرعية في مدينة طرابلس لملء المقعدين الشاغرين بوفاة النائب بدر ونوس واستقالة النائب روبير فاضل بدأت تُقرَع، على أساس أنّها حاصلة حتمًا، وعلى الأرجح يوم الأحد الأخير من شهر أيلول، كما ألمح وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق نفسه، بعيد لقائه التشاوري مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون الأسبوع الماضي.
غير أنّ المتابع لمجريات المعركة لا بدّ له أن يلاحظ إرباكًا واضحًا في مقاربة تيار "المستقبل" للموضوع، هو الذي يلوذ بصمتٍ مطبقٍ ارتاب منه البعض، ودفعهم لحدّ الحديث عن وجود "نوايا" لدى رئيس الحكومة سعد الحريري لـ"تطيير" الاستحقاق عن بكرة أبيه، وعن "ضغوط" يمارسها في سبيل ذلك، والتلميح إلى أنّه لا يبحث سوى عن "المخارج" و"الذرائع" التي يمكنها تغطية ذلك، إن وُجِدت...
لا حماسة ولا جهوزية
لا يحتاج المرء للكثير من العناء ليدرك أنّ "تيار المستقبل" ليس متحمّسًا ولا جاهزًا لخوض الاستحقاق الانتخابي الفرعي في طرابلس، ولو كان قرار دعوة الهيئات الناخبة لإجرائها بيد وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي يرى البعض أنّه يستطيع بكلّ بساطة التذرّع بعدم جهوزية الوزارة اللوجستيّة والعمليّة لها، خصوصًا بعدما تحوّل القانون والدستور إلى "وجهة نظر" لا أكثر. ولعلّ الإشكاليّة الأكبر التي تواجهه في هذا الصدد أنّ "شريكه" في "العهد"، أي "التيار الوطني الحر" لا يجاريه في هذه الرؤية، خصوصًا أنّ الانتخابات الفرعية ستشمل، إلى جانب مقعدي طرابلس، مقعد الرئيس ميشال عون في كسروان، والذي يرفض "التيار" التفريط به بأيّ شكلٍ من الأشكال.
ويكفي، للدلالة على إرباك "المستقبل"، معاينة الصورة الانتخابية اليوم في عاصمة الشمال، وإن أصرّ البعض على أنّ الأمر لا يزال مبكرًا لأوانه، بانتظار بتّ وزارة الداخلية لأمرها بشكلٍ رسميّ، كما تنصّ القوانين المرعيّة الاجراء. فعلى الرغم من ذلك، يتصرّف اللواء أشرف ريفي مثلاً، وهو الذي يُعتبر اليوم بمثابة "الخصم الأول" لتيار "المستقبل" على الساحة الطرابلسية، وكأنّ المعركة حاصلة غدًا، بل إنّه يذهب لحدّ "استفزاز" الحريري من خلال إعلانه "جهوزيته" التامة للمعركة، و"تفاخره" بأنّه سيخوضها بالتنسيق مع قوى المجتمع المدني من خلال لائحة مكتملة، أي مرشحين اثنين للمقعدين الشاغرين، وأكثر من ذلك، يتحدّث عن أسماء لأكثر من مرشح عن كلّ مقعد يقوم بغربلتها ليرسو على أحدها في نهاية المطاف.
ولا يبدو موقف رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي مختلفاً كثيراً عن موقف اللواء ريفي، إذ يتأهّب هو الآخر للمعركة من موقع القوّة، خصوصًا بعدما أطلق الوزير السابق نقولا نحاس المعركة عمليًا، بإعلانه الترشح لملء المقعد الأرثوذكسي الشاغر، مدعومًا من ميقاتي، مع الإشارة إلى أنّ تغييرًا في خطاب ميقاتي رُصِد في الساعات الأخيرة، حيث أصبح الرجل يرفض الحديث عن كيفية مقاربته للاستحقاق قبل دعوة الهيئات الناخبة، الأمر الذي ربطه البعض بـ"مفاوضاتٍ" تجري مع "المستقبل" أو غيره لقيام "تحالف انتخابي"، وإن بقي ذلك مستبعَدًا حتى إشعارٍ آخر.
وسط هذه الصورة، وحده "المستقبل" يغرّد خارج السرب. محرّكات ماكيناته الانتخابية لم تدر بعد، وقياديوه صائمون عن الخوض في الاستحقاق الفرعي، إلا عند ضرورة الردّ على بعض الأسئلة الصحافية التي تردهم. أكثر من ذلك، فإنّ المفارقة المثيرة للانتباه والاهتمام تكمن في أنّ هؤلاء، متى قرّروا الخروج عن صمتهم، لا يتردّدون في فضح "عدم حماستهم" لخوض الانتخابات، وإن حاولوا "التستر" بتعميم ذلك على كلّ الفرقاء من دون استثناء، عبر القول أنّ أحداً ليس مستعداً لمعركةٍ انتخابية في هذا التوقيت، أياً كان حجمها.
قلق مبرّر...
يوحي خطاب "المستقبل" غير المتحمّس للانتخابات الفرعية في طرابلس اليوم بأمنيةٍ لدى التيار "الأزرق" بالوصول إلى "توافقٍ" يقي المدينة شرور "المعركة" التي لم يحن أوانها بعد، إلا أنّ الأمر شبه مستحيل، إن لم يكن مستحيلاً بالمُطلق، كما يؤكد كلّ العارفين والمتابعين، خصوصًا في ضوء تحوّل الصراع إلى "صراع على الزعامة"، كما يسعى لتصويره اللواء أشرف ريفي على الأقلّ، الذي يريد أن يدحض الفرضيّة التي يتلطّى خلفها البعض للقول أنّ ما يصحّ على الانتخابات البلدية، ذات الطابع الإنمائي الضيّق، لا يصحّ بالضرورة على الانتخابات النيابية، التي تتحكّم فيها الحسابات السياسية بشكلٍ واسع النطاق.
ولكنّ موقف "المستقبل"، الذي يبدو حتى الساعة ذاهباً للاستحقاق "مكرهاً لا بطلاً"، له ما يبرّره، خصوصًا أنّه يخشى تكرار تجربة الانتخابات البلدية الاخيرة، التي مني فيها بهزيمةٍ نكراء، بعدما تفوّق عليه اللواء ريفي الخارج من رحمه والمتمرّد عليه، وهو يعتبر أنّ الوقت ليس ملائمًا اليوم لإعادة الكرّة، لما لذلك من وقع سلبي عليه، خصوصًا في مرحلة يحاول أن يراكم فيها الإيجابيات، بعد عودة رئيسه سعد الحريري لرئاسة الحكومة، وهو يريد البناء عليها تمهيداً للوصول إلى الاستحقاق النيابي في أيار المقبل أكثر استعداداً وقوّة، بعد أن يكون قد خرج من أزماته المتفرّعة، والتي تبدأ من داخل جسمه المترهّل قبل الخارج.
ولعلّ ما يضاعف من القلق "المستقبليّ" هو ما حصل في انتخابات المجلس التنفيذي لنقابة المعلمين في المدارس الخاصة مؤخرًا. فعلى الرغم من الطابع "النقابي" لهذا الاستحقاق، وعلى الرغم من فوز اللائحة المدعومة من الأحزاب، ومن ضمنها "المستقبل"، في كلّ لبنان، إلا أنّ الأرقام التي تمّ تسجيلها في الشارع الطرابلسي كانت أكثر من مخيّبة بالنسبة للتيار "الأزرق"، حيث أشارت الأرقام المتداولة إلى أنّ النقيب السابق نعمه محفوض نال 957 صوتاً في طرابلس مقابل 191 صوتاً فقط للنقيب الفائز رودولف عبود. وعلى الرغم من أنّ هذا الأمر رُبط تلقائيًا بقوة محفوض في الساحة الطرابلسية، كونه ابن مدينة طرابلس، ولديه علاقات واسعة مع أساتذة المدينة، إلا أنّ ذلك لا يقلّل من شأن الأبعاد السياسية للأمر، لجهة تهالك "المستقبل" شمالياً أكثر وأكثر.
توافق أو تحالف...
يبدو واضحًا انطلاقاً من كلّ ما سبق أنّ "المستقبل" لا يريد أيّ معركة في طرابلس اليوم. ويذهب البعض لحدّ القول أنّه، لولا العيب والحياء، لاختار "التيار" عدم خوض المعركة من أساسها، و"إهداء" المقعدين المحسوبين عليه لمن شاء، في "مزادٍ علني" إن أمكن.
لكنّ هذا الخيار لا يبدو واردًا اليوم، وما على "المستقبل" سوى خوض المعركة، وهو "يراهن"، أو "يمنّي النفس" على الأقلّ، بـ"معجزةٍ" قد تقود إلى "توافقٍ" في ربع الساعة الأخيرة، أو ربما "تحالف انتخابي" يخفّف عليه وطأة المعركة، ولو بالحدّ الأدنى...