مفاوضات جنيف الأخيرة، إذا لم تخُنّي الذاكرة، هي الجولة السادسة لجنيف أربعة، وكانت لتُسمّى جنيف تسعة لولا أنّ ستافان دي مستورا، المبعوث الخاص لأمين عام الأمم المتحدة لسوريا، شعرَ بالحرَج مسبقاً، فقرّر أن يعتبر كلّ ما يجيء من اجتماعات بعد جنيف أربعة «جولات» من ضمن جنيف أربعة، وقد وصَل العدّ إلى ستّ جولات، على أن تُعقد الجولة السابعة، أي ما يعادل جنيف 10، على الأغلب في أيلول المقبل.
إستلم دي مستورا المهمة في تموز سنة 2014 بعد استقالة الأخضر الإبراهيمي.
فبين حزيران 2012 عندما عقِد اجتماع جنيف واحد وحتى استلام دي مستورا المهمة، لم يُعقد سوى اجتماع ثانٍ هو جنيف إثنين. ولكن بعد استلام دي مستورا المهمّة تكثّفَت الاجتماعات إلى أن وصلت خلال السنوات الثلاث الماضية إلى سبع اجتماعات، فشلَت كلّها في إحراز أيّ تقدّم نحو حلّ الأزمة السورية بل، بحسب البعض، أحرزَت تراجعاً بالنسبة لقرارات جنيف 2 ألتي وضعت مبادئ للحل.
هذا الفشل مرَدُّه إلى أنّ دي مستورا يعقد الاجتماعات، الواحد تلوَ الآخر، دون أيّ أمل مسبَق في إحراز تقدّم، حتى فقَد الناسُ الثقة بفعاليتها. لا شكّ في أنّ اللاعبَين الأساسيَين الذين باستطاعتهما إحراز تقدّم في المفاوضات اليوم هما الولايات المتحدة وروسيا، ولذلك لا تقدّم حقيقياً في المفاوضات دون حدّ أدنى من التوافق بينهما.
بدأ التدخّل الروسي العسكري في سوريا في أيلول سنة 2015، بعدما فشلت إيران والميليشيات التابعة لها في حماية النظام. أرادت روسيا موطئ قدمٍ في الشرق الأوسط فجاءت الحرب السورية مفصّلةً على القياس.
لذا سرعان ما أنشأت روسيا قواعد عسكرية، بحرية (بتوسيع قاعدة طرطوس الصغيرة) وبرّية وجوّية وعَقدت اتفاقاً طويل الأمد مع الحكومة السورية يؤمّن لها البقاءَ غير المحدود في البلاد.
لم تحرّك أميركا بقيادة الرئيس باراك أوباما ساكناً، وظلّ الرئيس أوباما ينظّر بأنّ الروس سيغرقون في وحول سوريا حتى سيطروا على معظم ما يسمّى سوريا المفيدة.
سياسة أميركا اليوم في سوريا تختلف تماماً عن سياستها في عهد أوباما. الخطوط العريضة التي ظهرت حتى اليوم هي أنّها تعتبر أنّه ليس من المرغوب فيه أن توكلَ محاربة داعش والقاعدة في سوريا إلى إيران، لأنّ مِثل هذه الحرب ستنتهي بحرب أخرى مذهبية.
ألبديل بالنسبة للأميركيين هو تحالف سنّي في المنطقة تكون رأس الحربة فيه المملكة العربية السعودية، بالتعاون مع دول الخليج الأخرى ومصر ولربّما أيضاً تركيا.
الأهمّية التي تعطيها إدارة ترامب لهذه السياسة وهذا التحالف ظهرَت في أنّ أوّل زيارة للخارج قام بها ترامب كانت للسعودية حيث التقى القيادات السعودية وقيادات الخليج ورؤساء الدول الإسلامية ما عدا إيران.
بالنسبة لإيران سياسة إدارة ترامب، التي يساندها الكونغرس، هي في زيادة الضغوطات الاقتصادية عليها لإجبارها على فتحِ ملفات المنطقة التي تَعتبر أميركا أنّ لإيران يداً سلبية فيها، كالعراق، وسوريا، واليمن ولبنان، ليكون حلّها الشرط الأساسي لعودة إيران الكاملة إلى المجتمع الدولي.
هذا المخطط الأميركي أمامه عقبات كبيرة يجب تذليلها، ليس أقلّها إقناع روسيا بالتخلّي عن إيران، وإقناع إيران بالتالي بفتح الملفات المذكورة وعدم التدخّل في الحروب القائمة في المنطقة. وبصرفِ النظر عمّا إذا كان هذا المخطط سينجَح بالكامل، أو حتى جزئياً، فإنّ العمل على تحقيقه يعني أنّ الحلّ النهائي للمشكلة السورية، الذي يتطلب اتفاقاً أميركياً روسياً، ما زال بعيد المنال.
أقصى ما يستطيع الطرفان تتحقيقَه في هذه الأثناء هو اتفاقات تكتيكية مرحلية تهدف إلى خفضِ التوتر في بعض المناطق وفرضِ وقفٍ للقتال في البعض الآخر، كما بدأ يحصل في جنوب غرب سوريا ومناطق أخرى. مِثلُ هذه الاتفاقات بالنسبة لروسيا تُخفّف من إمكانية الغرَق في الوحول السورية التي لا يَسمح اقتصادها المتردّي به، كما يعطي للولايات المتحدة مجالاً لإيجاد حلّ لا يتطلب خسارات كبيرة لها، مادية أو بشرية.
ولعلّ الرابح الأكبر من هذه الاتّفاقات المرحلية، التي ستؤسّس لأماكن آمنة داخل سوريا، إضافةً إلى السوريين أنفسِهم، ستكون الدول المحيطة التي تعاني من تخمةٍ في أعداد اللاجئين السوريين فيها، وعلى رأسها لبنان. غير أنّ هذا يتطلب مقاربة عقلانية للموضوع والابتعادَ عن الحلول الشعبوية أو العاطفية التي لا تجدي نفعاً. فالعودة يجب أن تكون طوعية وآمنة، بحسب القوانين الدولية.
ولكي تكون كذلك فهناك شروط يجب أن تتوفّر. كي تكون العودة طوعية من الضروري أن يعاد اللاجئ إلى بلدته، أو على الأقلّ إلى مكان آمِن مؤقّت يوفّر له الأمان والطمأنينة. ولكي يكون المكان آمناً فيجب أن تكون هناك ضمانات بأنّ النظام، أو الميليشيات المنتشرة، لن تشكّلَ خطراً على حياة العائدين أو أمانهم.
هذه الضمانات لا تستطيع أن تعطيَها بشكل فعّال سوى الأمم المتحدة، بمشاركة حقيقية ومسؤولة من قبل العملاقين الأميركي والروسي. وهذا سيشكّل التحدّي الأكبر للسياسة الخارجية اللبنانية.