جاءت عملية القدس النوعية الجديدة، التي نفذها ثلاثة شبان فلسطينيين، اثنان منهم من مدينة أم الفحم في الأرض المحتلة عام 48، في توقيت مهم من جميع النواحي الأمنية والعملية والسياسية، مما جعل منها نقطة تحول في مسار الصراع تنطوي على دلالات عديدة.
من الناحية الأمنية أسقطت العملية الاعتقاد الذي ساد لدى أجهزة أمن الاحتلال بأن الانتفاضة الثالثة قد ماتت أو هي في طريقها للموت، وأن الإجراءات الأمنية المشددة قد نجحت في الحد منها، ومن ثم في إضعاف قدرة الشباب الفلسطيني على مواصلة عمليات الانتفاضة. ولهذا فإن عملية المقاومة الجديدة أكدت مجدداً أن الانتفاضة لم تمت أو تضعف، وأن عملياتها وتواترها مرتبطة أولاً وأخيراً بضمان نجاح تنفيذها، ولهذا كان نجاح العملية ضربة جديدة موجعة لمنظومة الأمن الصهيونية في أكثر المواقع رقابة وتحصينا ما يثبت أن العدو غير قادر على حماية أمن جنوده ومستوطنيه المعتدين من ضربات المقاومين. في حين أن شرطة العدو اعترفت بفشلها في امتلاك أي معلومات أمنية احترازية عن احتمال تنفيذ العملية، حيث قالت في بيان لها إن «الشبان الثلاثة لا يوجد عنهم أي ملف أمني لدى الشاباك»، ما يعني أنهم كانوا خارج دائرة الرصد. فيما قال وزير الأمن الداخلي جلعاد إردان، إن «منفذي العملية تجاوزوا خطوطاً حمراً».
أما من الناحية العملية فقد جاءت العملية بمثابة رد مباشر على تصعيد الهجوم الصهيوني الاستيطاني التهويدي في المدينة العربية المقدسة. فقد أراد منفذو العملية، في باحات المسجد الأقصى، التأكيد على أن حماية عروبة القدس والمقدسات لا يمكن أن يتم إلاّ عبر المقاومة المسلحة ومواصلة الانتفاضة ضد الاحتلال، وأن جيش العدو ومستوطنيه لا يفهمون سوى لغة القوة.
أما من الناحية السياسية فقد شكلت العملية رداً قوياً وصاعقاً على التحضيرات الجارية لعقد لما سمي بـ «صفقة القرن» التي تستهدف فرض اتفاق استسلامي يتم بموجبه تصفية الحقوق الوطنية للشعب الفلسطيني لمصلحة المشروع الصهيوني.
إضافة إلى كل ذلك فإن عملية القدس وما سبقها من عمليات مقاومة في قلب المدينة، التي تزدحم بالإجراءات الأمنية الإسرائيلية، تميّزت، بهذا التوقيت، بدلالات هامة، فهي تندرج في سياق تصاعد ملحوظ، منظم ومدروس، في عمليات الانتفاضة الثالثة المتواصلة، عكس كل التوقعات التي تحدثت عن أنها لا تعدو كونها هبة شعبية عفوية سرعان ما تخبو لعدم وجود قوة منظمة وعدم شمولها كامل أرض فلسطين المحتلة. غير أن تركز عمليات المقاومة والانتفاضة في القدس المحتلة إنما يعود إلى كون الصراع فيها بات أكثر احتداما من أي مرحلة سابقة، وما اشتراك شبان من أم الفحم في تنفيذ العملية إلا مؤشر على ذلك، وعلى انخراط الشباب الفلسطيني من كل مناطق فلسطين المحتلة في الانتفاضة، المستندة إلى دعم واحتضان شعبي واسع عكسته التظاهرات الحاشدة في تشييع الشهداء وإقامة مجالس العزاء لهم في أم الفحم، ورفض الدخول عبر البوابات الإلكترونية التي أقامها الاحتلال بعد تنفيذ العملية الفدائية، وإقامة الصلاة على مداخل الأقصى في تحد لسلطات الاحتلال الصهيوني التي أصدرت مؤخراً قوانين تجرم من يؤيد المقاومة. ويؤكد ذلك أن عمليات الانتفاضة تزيد من حجم المشاركة الشعبية في فعالياتها، وتعيد الصراع إلى مربعه الأول، ونقطة الصفر باعتباره صراعا على كامل أرض فلسطين، وليس على جزء من الأرض، وأن الشعب الفلسطيني يرفض التسليم أو التنازل للاحتلال عن أي جزء من أرضه أو التفريط بحقوقه الوطنية والتاريخية في فلسطين. ولهذا فإن العملية أسهمت في تأجيج الانتفاضة وتزخيم المشاركة الشعبية في التظاهرات والمواجهات مع الاحتلال، ووجهت ضربة قوية لنهج أوسلو الذي تصر السلطة الفلسطينية على مواصلته، والإمعان في سياسة التنسيق والتعاون الأمني مع الاحتلال ضد المقاومة والانتفاضة، وهو ما عبر عنه رئيس السلطة محمود عباس من خلال تنديده بعملية القدس، وذلك نزولاً عند رغبة الإدارة الأميركية والحكومة الصهيونية في إدانة العمليات الفدائية، وجاء هذا الموقف المشين لـ عباس في اتصال أجراه مع رئيس حكومة العدو بنيامين نتانياهو، ووفق وكالة «وفا» الرسمية، «عبّر الرئيس، عن رفضه الشديد، وإدانته للحادث الذي جرى في المسجد الأقصى المبارك، كما أكد رفضه لأي أحداث عنف من أي جهة كانت، وخاصة في دور العبادة».
إلى جانب هذه الدلالات المهمة، يمكن القول أيضاً إن عملية القدس شكلت تطوراً وتحولاً في مسار الانتفاضة من خلال نجاح منفذيها في الاشتباك مع جنود الاحتلال من مسافات قصيرة جداً وتمكّنهم من قتل ثلاثة جنود، قبل أن يستشهدوا. وهذا يمثل دليلاً على مدى القدرة على القتال والاشتباك والمواجهة مع جنود العدو، وفي الوقت نفسه الاستعداد الكبير للتضحية والاستشهاد في سبيل الدفاع عن الأرض والمقدسات وعدم الاستسلام لسياسة الأمر الواقع واليأس والإحباط.
انطلاقا مما تقدم فإن عملية القدس، وما سبقها من عمليات، ليست صاعقة في سماء صافية، إنما هي تعبير عن اشتداد الصراع وإرادة الشعب الفلسطيني على مواصلة المقاومة والانتفاضة باعتبارها هي الطريق لتحرير فلسطين وحماية عروبتها والحفاظ على المقدسات من التهويد، وليس طريق أوسلو الذي ثبت بأنه لم ينتج سوى التنازل والتفريط بالحقوق، والخنوع والخضوع للمحتل والتسليم بإملاءاته واشتراطاته، بالتزام التعاون والتنسيق معه ضد المقاومة والانتفاضة.