سمحت لي الظروف وجهد بعض الاصدقاء، أن ألتقي مجدداً، وبعد طول فراق، مجموعة لا بأس بها من رفاق المدرسة. ومع تكرار اللقاءات، عاد الى العلاقة نوع من الصداقة الجميلة والهادئة.
وكعادة رفاق المدرسة في بادئ الامر، إقتصرت الاحاديث على استذكار ايام الدراسة وفصول «الشيطنة» خصوصاً كوننا خرّيجي معهد الرسل جونية في فترة زمنية حرجة من تاريخ الحرب اللبنانية، وفي زمن لم يكن يضمّ بين صفوفه سوى شبّان. بعد التخرج، توزع الاصدقاء بين لبنان والخارج.
منهم من هاجر الى كندا والولايات المتحدة الاميركية، ولكنه أصرّ على العودة الى ربوع لبنان. وبعضهم سافر الى اوروبا لتحصيل العلم، خصوصاً انّ هذه المجموعة تضم الاطبّاء والمحامين والمهندسين، وكذلك رجال الاعمال والتجار والموظفين والمصرفيين...
هؤلاء من جيل عَجنته الحرب، فزاد عشقه يومها للبنان الوطن. وما عودة من هاجر منهم سوى دليل على تعلّقه به وشعوره بأنّ هذا الوطن هو ملجأه النهائي... أسّسوا عائلات وكانوا يحلمون بأن يمضوا أيامهم في بلاد تحميهم. آمنوا بمشروع دولة الحق، لذلك انخرط بعضهم يوماً بأحزاب وتيارات كانت تنادي بخروج الاحتلال لكي يسود النظام ويحكمون بعدالة.
والبعض الآخر تطوّع في جمعيات خيرية ومنظمات إنسانية بهدف تخفيف آلام مجتمعهم، وحاول آخرون العمل لمصلحة قراهم ومدنهم عبر تجربة العمل البلدي بكل أبعاده الانمائية والاجتماعية. كل واحد منهم ترك بصماته في المجالات المذكورة أعلاه، اضافة الى نجاحه في عمله وتطوير مشاريعه...
جيل رفض طيلة الفترات الماضية ان يهاجر او ان يترك لبنان. كان السفر بالنسبة اليه امّا مناسبة لتمضية عطلة ما، أو من اجل إنهاء مشروع تجاري وتحقيق ارباح منه ليصرف اموالها في لبنان بتوسيع أعمال او شراء منزل أو ارض. المهم انّ كل آماله وأحلامه وظّفها ليبقى في لبنان وعلى هذه الارض هو وأولاده.
هذا الجيل الذي لم يعرف طعم لبنان ما قبل الحرب، ولم يعرف السلم والأمان الداخلي بعد الحرب، ولم يستفد من خيرات الوطن، مصدوم اليوم بالدولة التي لم تكتمل فصولاً الّا على حسابه، ويتملّكه قرف من الاحزاب والتيارات التي وضع كل آماله فيها، فإذ بها تتحول الى بيوتات سياسية تقليدية محكومة بالوراثة التي لطالما وقفت بوجهها... أمّا الجمعيات، وخصوصاً الكنسية منها، فحرام التحدّث عنها، وأقلّ ما يقال فيها إنها لم تعد تلبّي طموح شباب متعلّم مثقف لديه الكثير الكثير من الاسئلة التي لا يجد لها الّا أجوبة عمومية بسيطة وسمجة، كي لا نقول سخيفة...
هو جيل تحوّل من الانتماء المطلق الى جيل قلق على وطنه وأمنه، يخاف على حاضره القريب كذلك على مستقبله. لذلك راح يفتش عن مخارج للطوارئ، إن عبر استثمارات صغيرة او متوسطة في دول الخليج، او عبر شراء منزل في بلدان وضعها الاقتصادي ليس بأفضل من وضع لبنان كقبرص واليونان او البرتغال، أو عبر التفكير الجدي بالعودة الى كندا او الولايات المتحدة الاميركية...
جيل قلق على وطنه يعجز أو لا يرغب بتشجيع زميل له في الارجنتين على العودة الى لبنان، كونه لا يضمن له اي استقرار اقتصادي او اجتماعي...
جيل قلق، يتفرّج على مدنه وقراه أماكن طفولته تتبدّل الى الأسوأ، والعلاقة بين الناس تتغيّر من دون ان يتمكن من فهم هذه التبدلات او اللحاق بها... جيل قلق على رغم بَسمته الدائمة ونظرته الى الحياة... هم لن يتركوا لبنان سيمضون ايامهم فيه، يدركون بأنهم «الجيل اللبناني الأخير».
أمّا أولادهم فلماذا عليهم ان يختبروا ما اختبروه وان يعيشوا في نفس الظروف التي عرفوها؟... أصلاً أولادهم ينتمون الى جيل آخر ومختلف، جيل لا ينتمي الى معظم قيَمهم ولا ينتمي الى لبنان... أمّا الجيل القلق، فعلينا، وبَدل الاستسلام، أن نحاول من جديد بناء ما نحلم به والانتخابات المقبلة محطة صغيرة، فالعمر لنا والايام أيامنا والقلق مصير العظماء قبل تحقيق آمالهم وأحلامهم وأمانيهم...