قبل أسبوعين، أعلن وزير الداخلية نهاد المشنوق أنّ القرار بشأن الانتخابات الفرعية المفترضة لملء المقاعد النيابية الشاغرة في كسروان وطرابلس، بفعل انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا واستقالة النائب روبير فاضل ووفاة النائب بدر ونوس، متّخَذ، وأنّ موعدها سيُحدّد "خلال أسبوع" في ضوء التشاور بين رئيسي الجمهورية والحكومة، وإن ذهب لحدّ ترجيح أن تجري يوم الأحد الأخير من شهر أيلول.
مرّ أسبوعٌ وأكثر، ولم يصدر أيّ مرسومٍ عن وزارة الداخلية بشأن هذه الانتخابات، بل إنّ الماكينات الانتخابيّة التي كانت قد أديرت عاد القيّمون عليها وأطفأوها، في ظلّ كلامٍ تخطّى حدود الهمس يشير إلى أنّ هذه الانتخابات قد "طارت"، لأنّ الإرادة السياسية بإجرائها غير متوافرة، وقد جاءت معركة عرسال بمثابة "ذريعة غبّ الطلب" جاهزة للاستخدام بشكلٍ أوتوماتيكي وفوري...
لا نوايا صادقة؟
منذ بدء الحديث عن الانتخابات الفرعية، التي تأخّرت أصلاً أشهراً عديدة عن موعدها "الملزم" بموجب القانون، يتصرّف السياسيون وكأنّ المعركة تُفرَض عليهم فرضًا، فيما هم لا يريدونها بأيّ شكلٍ من الأشكال.
هكذا، بدل أن يكون وزير الداخلية هو "المُبادِر" على خطّ الدعوة لهذه الانتخابات، تصرّف على طريقة "ردّة الفعل"، وهو لم يتحرّك عمليًا إلا بعد "البروباغندا الإعلامية" التي رُصِدت على هذا الصعيد، والتي دخلت على خطّها أيضًا منظمات المجتمع المدني، التي ضغطت في هذا الاتجاه. من هنا، كان على الوزير التصدّي لمسؤوليّاته في هذا الصدد، وإن كانت أوساطه تؤكّد عكس ذلك، وتشير إلى أنّ تحرّكه لم يتأخّر أبدًا، إلا أنّ وضع البلاد قبل وبعد إقرار قانون الانتخاب، وبالتالي التمديد للمجلس النيابي، فرض "الالتباس" الحاصل في المواعيد الدستورية.
وبافتراض ذلك، فإنّ تحرّك الوزير بقي "ناقصًا"، رغم إقراره مرارًا وتكرارًا بأنّه "مُلزَمٌ" بموجب القانون بدعوة الهيئات الناخبة، وبالتالي، فإنّ هذا الأمر ليس خاضعًا لأيّ بحثٍ أو نقاش، ما أوحى وكأنّ "الأزمة" الوحيدة التي تحول دون صدور المرسوم الرسمي عن وزارته ليس سوى "الاتفاق" على موعد الانتخابات، لا أكثر ولا أقلّ. سريعًا، "قذف" الكرة باتجاه رئيسي الجمهورية والحكومة، وسط حديثٍ عن "اختلافٍ" بينهما في مقاربة هذا الاستحقاق، فالأول يريده لـ"رمزية" المقعد الشاغر في كسروان، والذي يعود له شخصيًا، والثاني لا يعتقد أنّه جاهزٌ له بعد، وهو لا يريد الانتخابات، بل يخشى أن "تفضح" ضعفاً لن ينفعه في الوقت الراهن.
اكتفى وزير الداخلية برمي الكرة إذاً باتجاه رئيسي الجمهورية والحكومة، معلناً أنّه ينتظر نتيجة التشاور بينهما، ولم يفعل أكثر من ذلك. لم يفعل ما فعله مثلاً إبان البحث بقانون الانتخاب، حين أقدم على توقيع مرسوم الهيئات الناخبة وفق قانون الستّين، وأحاله لرئيسي الجمهورية والحكومة، رغم اعتراض رئيس الجمهورية وقتها، وذلك حتى لا يُتّهَم بالتقصير أو التقاعس في مكانٍ ما. وقد يكون هذا الأمر ساهم أكثر في القناعة المترسّخة لدى الكثيرين بأنّ نوايا إجراء الانتخابات الفرعية غير صادقة، وأنّ الأمر لا يعدو كونه "مناورات كلامية" بانتظار إيجاد "المَخرَج المناسب" لتجنّب هذا "الكأس المُرّ".
المعادلة تغيّرت
بين هذا وذاك، جاءت معركة جرود عرسال، وكأنّها هي هذا "المَخرَج" الذي يبحث عنه هؤلاء السياسيون على وجه التحديد. برأي كثيرين، أتت هذه المعركة العسكرية وما يحيط بها من مجرياتٍ وأحداث بمثابة "شحمة على فطيرة" لرافضي الاستحقاق الفرعي والمتضرّرين منه، لتطييره، وإن لم يكن ذلك ممكناً، فلتأجيله بالحدّ الأدنى.
يستند هؤلاء إلى أنّ المعركة الحاصلة على الحدود لحماية لبنان من الإرهاب تستنفر لبنان من أقصاه إلى أقصاه، ولا مجال لإجراء أيّ انتخاباتٍ في الوقت الحاضر، بل إنّ البعض، حتى من رافضي هذه المعركة، ربما يمنّي النفس بأن يطول أمدها لهذه الأسباب. وعلى الرغم من أنّ المُعطيات الموضوعية تنفي أيّ صلة بين الانتخابات المحصورة في دائرتي كسروان وطرابلس البعيدتين عمليًا عن نطاق المعارك العسكرية، إلا أنّ السلطات التي تذرّعت بما أسمتها "الطروف الأمنية القاهرة"، في ظلّ أوضاعٍ مستقرّة نسبيًا، لن يصعب عليها التذرّع بالمعركة الحاصلة للحديث عن "استحالة" إجراء الانتخابات الفرعية، إذا ما اتّفق السياسيّون على ذلك.
في مطلَق الأحوال، فإنّ الأكيد أنّ معركة الجرود ستكون حاضرة في الاستحقاق الفرعي، إذا ما جرى اليوم، من الباب العريض، بل إنّه ليس مبالَغًا به القول أنّ المعادلات المتحكّمة بهذه الانتخابات اختلفت رأساً على عقب عمّا كانت عليه قبل أيامٍ قليلة، بمعنى أنّ ما قبل معركة عرسال لن يكون كما بعده، على مختلف المستويات. وأكثر من ذلك، يرى البعض أنّ الانتخابات الفرعية، في توقيتها اليوم، قد تشكّل استفتاءً شعبيًا على المعركة ومجرياتها والمواقف منها.
ومن هذا المنطلق، لا تبدو "الحسابات الانتخابية" بعيدة أبدًا عن بعض المواقف التي صدرت في الأيام الأخيرة، ولا سيما منها المواقف "المستغرَبة"، سواء في تأييد المعركة العسكرية أو في معارضتها. وعلى رأس هذه المواقف، يأتي مثلاً موقف رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي تخلّى عن "معزوفة" رفض قتال "حزب الله" وحصر "الشرعية" بالجيش وحده، بل ذهب لحدّ رفض "شيطنة" الحزب، وإن لم يصل لحدّ "الانقلاب"، الأمر الذي لا يمكن ربطه فقط باستراتيجية "القوات" الانفتاحية، خصوصًا أنّ هذه المواضيع "الاستراتيجية" لطالما حُيّدت عنها، بل بطبيعة المعركة التي يخوضها الحزب في وجه الإرهاب، والأهمّ من ذلك، بالالتفاف الشعبي العفوي حول الحزب، خصوصًا في المناطق المسيحية، التي اعتبرت أنّ الحزب بقتاله يحميها ويدافع عنها.
وعلى عكس "القوات"، أتى موقف "المستقبل" المعارض لمشاركة "حزب الله" في معركة الجرود، بعد أكثر من ثلاثة أيام على نشوبها، وكأنّه "فرض واجب" ذهب إليه التيّار "الأزرق" رغمًا عنه، بعدما كان عددٌ من نوابه "تطوّعوا" لمقاربة الدور الذي يلعبه الحزب من منظورٍ إيجابيّ، وهو ما فعله مثلاً النائب محمد قباني. وهنا أيضًا، لا تبدو حسابات المعركة الانتخابية، ولا سيما الطرابلسية الفرعية، بعيدة عن "أجندة" التيّار، الذي اشتمّ رائحة محاولات من "خصمه الأشرس" اليوم، الوزير المتمرّد عليه اللواء أشرف ريفي، لتصوير صمته وكأنّه، في مكانٍ ما، إعلان ولاءٍ للحزب وإضفاء شرعيّة على قتاله، وبالتالي "تبعيّة" له، الأمر الذي لن يروق لبيئته الحاضنة في الساحة الطرابلسية، خصوصًا بعد "الشحن" الذي عاشته منذ نحو عشر سنوات وأكثر.
ما الذي تغيّر؟
يقول وزير الداخلية، بحسب ما ينقل عنه زوّاره، أنّ الانتخابات الفرعية ستجري في نهاية المطاف، وأنّه سيقوم بدعوة الهيئات الناخبة بعد منتصف شهر آب، لتجري العملية في 24 أيلول. لكن، إذا كان القرار فعلاً متّخذًا، فما الذي يؤخّر إصدار المرسوم؟ ولماذا انتظار ربع الساعة الأخير؟ ألا يعكس ذلك وجود نوايا عرقلة، أو بالحدّ الأدنى، رهاناً على تغييراتٍ ما؟
أياً كانت الإجابة، الأكيد أنّ مقاربة الانتخابات الفرعية، والمماطلة الرسمية غير المبررة في مقاربتها والتعامل معها، أظهرتا مرة أخرى استسهال الدولة في انتهاك القوانين، التي تقرّها هي، الأمر الذي يفترض أن تطرح حوله عشرات علامات الاستفهام... والتعجب!