كلامٌ ماسيٌّ من عيار الحقيقة التي تَبني وطناً وتُحرِّرُ شعباً، ما أتى به السيد البطريرك مار بشارة بطرس الراعي، في عظته أمام الشبيبة المارونية العالمية[1]، بحضور وزير الخارجية جبران باسيل، حيث دَعى"المسؤولين عن الشؤون الزمنية العادية إلى أن يُمارسوا سلطتهم وواجباتهم بنور الحقيقة بعيداً عن المصالح الماديّة غير المشروعة وتجارة المُحاصَصة"، التي تمقتُها في العلن جميع الأحزاب السياسية في لبنان فتنادي بفضيلة الكفاءة، إلاّ أنَّ لُعابها سُرعان ما يسيل أمام جُبنَة المُحاصَصة التي تُخرجها عن طورها المبادئي الذي أوصلها إلى سُدّة الحُكم، فتُطيحُ بشعاراتها وبالكفاءة والكفوئين الذين ينتمون إلى وطن، لصالح المحازبين الذين ينتمون إليها، وهكذا تُخطَف اللقمة من فَم الأُسُود لتُلقى إلى التابعين.
لا، ليست المُحاصَصةُ فضيلةً سياسيّة ولا يُمكنها أن تكون، وبالطبع، هي ليست حقّاً مُكتسباً لأيِّ شخصٍ أو حزبٍ أو فئةٍ من الفئات. المُحاصَصة رذيلةٌ سياسيّة مقيتة حتى ولو أتت بالأفضل، ويكمن ضررها الأكبر في استبعاد أصحاب الحقوق، وفي استقصاء وامتهان، والكلام هُنا للسيد البطريرك، "قيمة الأحرار الذين يستمدّون قوّتهم من كفاءاتهم وأخلاقيّتهم واستقامتهم واحترامهم للقانون، لا من الاستزلام والاستقواء والولاء للأشخاص"، وقد آن الآوان لاستئصالها من الحياة السياسية وإيقاف تداعياتها السيئة على الأشخاص والمؤسّسات، هذا إن أردنا فعلاً الإنتقال من دولة النوادي إلى دولة القانون العادلة التي ئؤمن بالكفاءة وتُعطي كلّ ذي حقٍّ حقّه، من دون محاباة ولا مِنَّة.
ولا، ليس بإمكان الأحزاب السياسية أن تستولي على وطنٍ بحجّة المحاصَصة، ولا على إرادة شعبِ ولا أن تختَصِر شعباً؛ فالأحزاب بكافّة أطيافها وألوانها، لا تستطيع ولا يجب أن، تختصر المشهدية السياسية في شخصها وشخص مَن يُمثّلها، ولونها ولون مَن يُمثّلها، وفلسفتها وفلسفة مَن يُمثّلها، حتى ولو استطاعت إلى ذلك سبيلاً، ذلك أنّ الإحتكار بكافّة وجوهه ديكتاتورية، وعندما يُمارس باسم الديمقراطية، يُضحي ديمقراطية ديكتاتورية.
ونعم، بإمكان الأحزاب أن تسعى إلى بناء وطن، لا أن تحتكرَ وطنا. وبناء الأوطان يفترض الحياة السياسية التي تمثّلها الأحزاب، ولكنه يفترض دائماً البحثَ عن الشرفاء والأكفّاء الذين بنوا أنفسهم بأنفسهم، وما استزلموا لأحد إلا للوطن، فهؤلاء الأكفّاء هُم الرافعة الحقيقيّة لأوطانهم، وبالتالي يجب البحث عنهم، بحسب السيد البطريرك وهو على حقّ، وتسليمهم "المسؤولية التي هم جديرون بها".
وما بين الإنتماء إلى وطن والإنتماء إلى فئة، يجدر بنا اعتناق الأول من دون أن ننبذ الثاني، وتفضيل الأول على الثاني، لأنَّه ليس بإمكان الفئة مهما كانت كبيرةً أن تستوعب وطناً، فيما الوطن، مهما كان صغيراً، باستطاعته أن يستوعب كلّ الفئات.
[1] عظة البطريرك الكردينال مار بشارة بطرس الراعي -الديمان- الاحتفال مع الشبيبة المارونية العالمية، الأحد 23 تموز 2017