انجاز لبناني تحقق في الساعات الماضية، تكاملت فيه الجهود العسكرية والامنية والسياسية، فأنتجت نصرا لبنانيا على الارهاب. بدأت الحكاية مع العزم والتصميم على دحر الارهابيين من جرود عرسال. كان الجيش اللبناني يتخذ وضعية الدفاع لمنع "جبهة النصرة" من التقدم بإتجاه عرسال أو إتخاذ المدنيين دروعا بشرية، أو استخدام النازحين مطيّة لتحقيق أهداف ارهابية. سبق وان مارس المسلحون سياسات الخداع في الاعوام الماضية، وحققوا اصابات في صفوف الجيش اللبناني في معارك الجرود الشرقية. لم يكن الجيش مجهّزاً بما فيه الكفاية، وكانت القوى الامنية تعرضت في عرسال قبل الخطف الى اعتداءات دموية ادخلت أحد عشر عنصرا من قوى الامن الداخلي الى المستشفيات، ثم جاءت عمليات خطف الجنود يوم اجتياح "داعش" و"النصرة" لعرسال، وأخذ البلدة رهينة. كان العراسلة آنذاك قد استيقظوا من خديعة سرت سابقا تحت عنوان "المعارضة السورية" لاسقاط النظام في دمشق و"التحرر" في اطار "الربيع العربي". يومها انساق عدد من فاعليات عرسال مع الموجة، ومنهم رئيس بلديتها آنذاك علي الحجيري. لم تسمح المجموعات الارهابية لعرسال ولا للنازحين السوريين اليها بالتحرر من تسلط المسلحين. كان عدد من النازحين يتعاطف مع المجموعات الارهابية. ربما يكون المنضوين في اتفاق الخروج مع النصرة الى ادلب، والبالغ عددهم عشرة آلاف هم وحدهم من انسجم في مشروع الارهابيين من اصل اكثر من مئة الف نازح. أي ان العدد الغالب من النازحين لا حول لهم ولا قوة. في الاستنتاج الأولي أن المنضوين في اطار الصفقة كان لهم دور وظيفي لمؤازرة المسلحين او تأمين احتياجاتهم، او هم بيئة حاضنة لهم. انتهى الآن دورهم بسقوط "النصرة".
المهم الآن ان خروج جماعات "جبهة النصرة" من عرسال وجرودها تحقّق بعد كسر الجبهة عسكرياً، واضطرارها للتفاوض. لم تصل الامور الى هذا الحد، الاّ بعد هزيمة ميدانية فرضها صمود الجيش اللبناني طوال السنوات الماضية، وسحق المقاومة للمسلحين في المعركة الأخيرة. هنا رضخ الارهابيون. فلماذا حصل التفاوض اذا؟.
يوازي نجاح المفاوضات المعارك العسكرية. كانت المقاومة تعرضت لهجوم سياسي داخلي اعتراضا على دورها الوطني في جرود عرسال. تدخل رئيس المجلس النيابي نبيه بري، كعادته، مدافعا عنها، فقال "انها تقاتل بالنيابة عن كل لبنان". كان بري حازماً في التصدي للهجوم السياسي على المقاومة. الصدى الوطني لمعركة جرود عرسال كان يتردد في كل المناطق. فرض بري التغطية الوطنية للمعركة. لم يصدر من بعدها انتقاد سياسي لاذع بحق "حزب الله". بل كان معظم الحديث في السر والعلن يدور حول تضحيات المقاومين.
جاءت المفاوضات التي قادها المدير العام للامن العام اللواء عباس ابراهيم بإسم الدولة اللبنانية لتصل الى الخواتيم السعيدة، رغم محاولة "النصرة" رفع السقف في آخر لحظة. أدار ابراهيم اللعبة بكل حنكة، وذهب الى البقاع الشمالي يُشرف شخصيا على ترجمة الاتفاق بعد ازالة المطبات وتدوير زوايا التفاوض. ما بين الحكمة والحنكة نجحت مهمة ابراهيم، وتم التنفيذ.
الخفايا في النتائج الاولية التي تحققت من خلال نجاح صفقة التفاوض تتلخص بالآتي: الحد من الخسائر البشرية التي كانت ستفرضها المعركة الميدانية. تحقيق الهدف نفسه في تحرير الجرود العرسالية لاعادتها الى اهلها. دحر الارهابيين الى غير رجعة واخراجهم الى ادلب السورية.
اخراج عشرة الاف نازح سوري، مما يخفف من العبء عن لبنان وخصوصا عرسال.
فتح الباب امام النازحين السوريين لاعادتهم الى قراهم في سوريا لاحقا. التفرغ لحسم المعركة مع تنظيم "داعش" بالعسكر او بالمفاوضات. لكن المشكلة الى اين سيرحّل الدواعش لو حصلت صفقة؟!. تثبيت سيادة لبنان على ارضه. لم الشمل بين عرسال ومحيطها في البقاع الشمالي، كما بدا في لقاء اللبوة الجامع، وكلام رئيس بلدية عرسال باسل الحجيري الوطني.
يحق للبنانيين التباهي بقدراتهم في تحرير ارض احتلها الارهابيون. لولا صمود الجيش على تلال الجرود، والشعب في قراه الممتدة من القاع الى رأس بعلبك وعرسال واللبوة وأبعد، على طول المساحة الشرقية التي بدت متآلفة. لولا تضحيات المقاومين على الجبهات وتقديم الدماء والأرواح. لولا الجبهة السياسية الداخلية التي يتقدم صفوفها رئيسا الجمهورية والمجلس النيابي دفاعا عن المقاومة وحقها في التكامل مع الجيش والشعب لتحرير الارض ودحر الارهاب. لولا الحنكة التفاوضية التي ترجمها اللواء ابراهيم في ادارة الملف وانجاح المهمة بحكمة ودراية. لولا كل ذلك، لما كان تحقق النصر اللبناني. انتهت حكاية "النصرة" في لبنان. لتبدأ بعدها نهاية قصة "داعش". انها مسألة وقت بسيط. فلننتظر.