مِن المفترض أن يبدأ العدّ العكسي لمعركة إنهاء «داعش» في جرود القاع ورأس بعلبك فور إتمام المرحلة الأخيرة من اتّفاق ترحيل «جبهة النصرة» ومِن بعدها «سرايا أهل الشام»، وهو ما يُرجّحه المطّلعون بمدّة أسبوع تقريباً.
ليس سرّاً أنّ الولايات المتحدة الأميركية لم تكن متحمّسة لضربِ «النصرة» في جرود عرسال بمقدار الحماسة التي أبدَتها لضرب «داعش»، خصوصاً الأجانب منهم.
خلال وجود الوفد اللبناني في واشنطن برئاسة الرئيس سعد الحريري، استفاضَ أكثر من مسؤول أميركي في الحديث عن ضرورة إنهاء «داعش» وقتلِ عناصر هذا التنظيم الإرهابي، ولكن عند إلحاح أحدِ أعضاء الوفد اللبناني حول «النصرة» كان الجواب الأميركي يأتي بارداً حول وجوب إنهاء كلّ التنظيمات الإرهابية.
وخلال السنوات الاخيرة، كانت واشنطن تتبنّى وجهة النظر القائلة إنّ «داعش» هو تنظيم إرهابي وإنّ «النصرة» هي خارج هذا التصنيف. طبعاً تُدرك واشنطن جيّداً أنّ أسلوب «النصرة» إرهابيّ لناحية السيارات المفخّخة والانتحاريّين واستهداف المدنيّين، لكنّها كانت تَعتبر أنّ مسرح عمليات «النصرة» محصور في ساحات الشرق الأوسط والساحات الموالية للنظام السوري.
كما أنّ «النصرة» أقامت علاقات جيّدة مع إسرائيل من خلال بوّابة الجولان، وتلقّى عناصر منها العلاجَ في مستشفيات إسرائيل، إضافةً إلى ما وصَلها من سلاح وذخائر، ما يَعني أنّ التنظيم الذي غيَّر اسمَه وأعلنَ انفصاله عن «القاعدة» قابِلٌ لأن يُجيّر أسلوبه الإرهابي بما يَخدم المصالح السياسية للعواصم الغربية.
لكنّ الإصرار الروسي خلال المفاوضات مع الأميركيين أرغَم واشنطن على الموافقة على إدراج «النصرة» إلى جانب «داعش».
ومع التحضيرات التي كانت قائمة لإنهاء «جيب» جرود عرسال في مرحلة فرزِ مناطق النفوذ وتثبيتها في سوريا، كان التنسيق القائم بين الجيش اللبناني و«حزب الله» يركّز على بدءِ الضربة للمنطقة التي يسيطر عليها تنظيم «داعش» وفق الحسابات الآتية: «داعش» هو التنظيم الأقوى مع زهاء 450 مقاتلاً، فيما «النصرة» تضمّ 220 عنصراً و»سرايا أهل الشام» زهاء 200 مقاتل.
لكنّ خطّة الهجوم تبدّلت لتضَع «النصرة» في المرحلة الأولى خشية أن يؤدّي الانتهاء من «داعش» إلى ظهور عراقيل دولية أمام استكمال المعركة ضدّ «النصرة» عبر تجييشِ أصوات داخلية ووفقَ أعذارٍ شتّى. لذلك انطلقَت المعركة ضدّ «النصرة» بهدف ضمان تطهير كلّ المنطقة نهائياً.
ومع انتهاء المفاوضات التي أدارها المدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم ببراعةٍ وحنكة وصلابة، وتواصَل خلالها مع الجانب السوري، ظهَرت القدرة الكبيرة التي كان يتمتّع بها تنظيم «النصرة» داخل المجتمع اللبناني.
فنحو ثمانية آلاف نازح سوري، يَعني أنّ البيئة الحاضنة لـ«النصرة» داخل لبنان كانت كبيرة وواسعة وتتركّز داخل مخيّمات النازحين السوريّين في شكل أساسي، وهو ما يُعيد طرح علامات الاستفهام حول الأخطار الأمنية الموجودة تحت مسمّيات النزوح واللجوء.
لكنّ الأهمّ التحضيرات القائمة لمعركة إنهاء «داعش»، والواضح أنّ هذه المعركة لن تنطلق إلّا بعد الانتهاء بنحو كامل من ترحيل «النصرة» و«سرايا أهل الشام» مع بيئتهم الكاملة، وهو ما يعني بدءَ العدّ العكسي مع نهاية الأسبوع المقبل.
وفي هذه الأثناء، تستمرّ قيادة الجيش اللبناني في استكمال تحضيراتها انسجاماً مع التكليف السياسي من السلطة اللبنانية.
لكنّ المعركة مع «داعش» أكثر دقّةً وصعوبة. فعدا عديد عناصره الأكبر والمساحة الأوسع التي يسيطر عليها، فإنّ «داعش» اشتهر بوحشيّته وشراسته القتالية وباستخدامه الانتحاريّين بكثافة وسط حضورٍ لعناصر جاؤوا من الدول الغربية، لذلك تلحّ العواصم الغربية على ضرورة قتلِهم وعدمِ تركِهم يَرحلون أحياءَ خشية عودتهم لاحقاً إلى بلادهم.
في المبدأ وبعد رحيل «النصرة» سيبدأ تفكيك مخيّمات النازحين في وادي حميد، كون ساكنيها رَحلوا مع «النصرة»، وهو ما سيَسمح للجيش بالدخول عبر مدينة الملاهي، وهو الممرّ الوحيد الذي كان يربط الجرود ببلدة عرسال، وبالتالي عزل «داعش» نهائياً عن البلدة اللبنانية.
لكنّ محاصرة «داعش» ليست فقط من قبَل الجيش اللبناني، لأنّ لـ«حزب الله» خطوطَ تماس مع «داعش» في المناطق الشرقية، إضافةً إلى الجيش السوري الذي يتولّى الجهة الموجودة على الأراضي السورية، وهذا ما يعني وجوبَ التنسيق الميداني لإنجاح العملية.
حتّى الآن، لا مفاوضات لبنانية مع قيادة «داعش»، بل فقط تواصُل داعشي مع السلطات السورية يُبدي فيها التنظيم قبوله بالانسحاب ولكن إلى جانب داعشيّين في اليرموك. إلّا أنّ المطّلعين يَعتبرون أنّ هذا الطرح ليس بجديد، وهو حصَل سابقاً بهدف تقطيعِ الوقت وصولاً إلى فصل الخريف. وحسب هؤلاء فإنّ المفاوضات الجدّية لن تحصل إلّا بعد ضربةٍ عسكرية موجعة تُرغم «داعش» على التفاوض جدّياً.
لكن في الأروقة المعنية أسئلة كثيرة بعضُها لم تنضج إجاباته. فالمعركة التي ستنطلق حتماً في مدة ليست ببعيدة بات واضحاً أنّها ستأخذ وقتاً أطول من معركة «النصرة»، ما يعني أنّ المعركة لن تكون سهلة، وبالتالي كيف سيتصرّف الجيش في حال تراجَع «الدواعش» أمام الضغط العسكري في اتّجاه خطوط تماسِهم مع «حزب الله» والجيش السوري، وبالتالي هل سيطلب منهما الدخول في المعركة؟ واستطراداً هل سيستوجب ذلك إسناداً مدفعياً من «حزب الله» والسوريين؟ وكيف سيحصل ذلك خصوصاً أنّه سيتطلّب تنسيقاً لبنانياً - سوريّاً؟
والأهمّ ما دار من نقاشات داخل الحكومة اللبنانية حول مشاركة سلاح الطيران. صحيح أنّ طائرات «السيسنا» اللبنانية إضافةً إلى المروحيات ستعمل على تغطية المساحة اللبنانية، ولكن ماذا عن المساحة السوريّة؟ فهل سيَجري الطلب من السلطات السورية المساندة الجوّية داخل أراضيها؟
وقيل إنّ الرئيس الحريري رَفض التنسيق العسكري مع سوريا مقترحاً الاستعانة بطائرات التحالف الدولي.
«حزب الله» أبلغَ إلى المعنيين أنّه لن يقاتل تحت غطاء الطيران الحربي الغربي وكذلك الجيش السوري، ولذلك وضِعت هذه الفكرة جانباً ولو أنّ مصدراً ديبلوماسياً أميركياً لم يستبعد تدخّلَ الطائرات التابعة للتحالف الغربي من دون استئذان أحد في حال احتاجت المعركة لذلك.
وتكشف مصادر مطّلعة أنّ الجيش يُحضّر لمفاجأةٍ عسكرية تؤدّي الى شلّ قدرات «داعش» لحظة بدءِ المعارك، وهو ما يَعني توقّعَ بدءِ المفاوضات الجدّية بعد أيام معدودة على بدء المعركة. لكنّ هذه المفاوضات ستلحظ طلب «داعش» الانسحابَ في اتجاه دير الزور والرقة، وهذا سيعني سلوكَ هؤلاء ممرّات داخل الأراضي السورية ما يَستوجب، حكماً، تنسيقاً مع دمشق.
وتُرجّح هذه المصادر أن يبادر رئيس الجمهورية إلى تكليف اللواء عباس ابراهيم وبشكل رسمي للتفاوض مع السلطات السورية لإتمام المفاوضات.
والأهمّ أنّ هذه المفاوضات لن تقف عند حدود تأمين ترحيل من يتبقّى من «داعش»، بل أيضاً ستفتح ملفّ النازحين السوريين جدّياً في ضوء ما كشفَته صفقة ترحيل «النصرة» حول قوّة تغلغُل الإرهابيّين في المخيمات، إضافةً إلى أنّ من يريد الذهاب إلى مناطق سيطرة النظام يستطيع ذلك، ومن يريد مناطق المعارضة يستطيع الذهاب الى إدلب كما هو حاصل، وبالتالي لا أعذار جدّية لإبقائهم في لبنان، إلّا إذا كان هنالك من يسعى لدورٍ آخر لهم مستقبلاً على الساحة اللبنانية.