على طريقة "التسويات" التي حفلت بها الساحة السورية منذ انطلاق ما سُمّيت يومًا بـ"الثورة" والتي سرعان ما تحوّلت إلى "حرب" بكلّ ما للكلمة من معنى، انتهت معركة جرود عرسال في فترة قياسيّة نسبيًا، لتحقّق الهدف الأول المرجوّ منها، وهو دحر إرهابيّي "النصرة" من الأرض اللبنانية التي استولوا عليها منذ سنوات دون وجه حقّ.
وبعكس المشهد الموحّد والجامع الذي سُجّل في اليوم الأول للمعركة، فإنّ الصورة اختلفت مع نهايتها، مع ارتفاع بعض الأصوات الرافضة لما حصل، كوزير الداخلية نهاد المشنوق الذي اعتبر أنّ أيّ معركة لا توحّد اللبنانيين إذا لم تكن بمواجهة إسرائيل، أو المستفسرة عن هيبة الدولة، التي تحوّلت، ممثّلةً بالمدير العام للأمن العام اللواء عباس ابراهيم، لمجرّد "وسيط" بين حزبٍ لبنانيّ ومجموعاتٍ مسلّحة.
ولكن، بين هذا وذاك، وسواء كان ما تحقّق هو "انتصار إلهي" كما يحلو لأنصار "حزب الله" أن يقولوا، أو مجرّد "شيءٍ ما" وفق تعبير رئيس الحكومة سعد الحريري، يمكن القول أنّ الحزب ضرب أكثر من عصفورٍ بحجرٍ، وحقّق سلسلة مكاسب من المعركة دفعةً واحدة...
المعادلة الثلاثية تثبّتت
قد يختلف كثيرون في توصيف نتيجة ما حصل في جرود عرسال، وهذا أمرٌ طبيعيّ وبديهيّ، فتمامًا كما يرى "حزب الله" وأنصاره أنّ ما تحقّق "انتصارٌ عظيمٌ"، مستندين في ذلك إلى الأهداف التي وُضِعت للمعركة والتي تمّ تنفيذها، يمكن لمناهضيه أن يروا أنّ ما تحقّق "أقلّ من عاديّ"، ليس لأنّ توازن القوى كان منعدمًا فحسب، بل لأنّ الحزب خسر عددًا من شبابه في معركة انتهت بـ"تسوية" شملت أبو مالك التلّي، ذلك الرجل الذي كان كثيرون يمنّون النفس بأن يُقتَل أو يُعتقَل، لا أن يسمح له بالفرار، ولو ذليلاً.
لكن، وبغضّ النظر عن هذه الاختلافات البديهيّة في مقاربة الأمور، وهي اختلافاتٌ أزليّة وتنطلق من العقيدة التي يؤمن بها كلّ فريقٍ أصلاً، قد يكون من الصعوبة بمكان أن ينكر أحد أنّ "حزب الله" حقّق العديد من المكاسب بنتيجة هذه المعركة، في السياسة الداخلية، بعيدًا عن فرضيّة أو نظريّة الشعور بـ"فائض القوة" التي لا تنفع تأكيداته الدائمة بأنّها غير موجودة في قاموسه، في تبديد مخاوف وهواجس معارضيه من تداعياتها عليهم، من الناحية المعنوية بالحدّ الأدنى.
وتتربّع معادلة الجيش والشعب والمقاومة، التي يتمسّك بها "حزب الله"، على رأس "المكاسب" التي حقّقتها هذه المعركة في الداخل، إذ إنّ الوقائع الميدانية على الأرض ثبّتت عمليًا هذه المعادلة، حيث كان واضحًا أنّ التنسيق بين الحزب والجيش كان قائمًا منذ اليوم الأول للمعركة وحتى نهايتها، خصوصًا أنّ الجيش لعب دورًا أساسيًا في حماية مخيّمات النازحين السوريين وضبط محيطها، كما في منع تسلّل أيّ مسلّحين سوريين إلى الداخل اللبناني. وفي الوقت نفسه، فإنّ الالتفاف الشعبي النادر، الذي رُصِد حول "حزب الله" في هذه المعركة، والذي يعود بالدرجة الأولى إلى مخاوف اللبنانيين بكافة أطيافهم من التطرّف الأصوليّ، كرّس عنصر "الشعب" في المعادلة، وهو ما جسّده خير تجسيد الاحتفال بتحرير الأسرى الذي حصل في بلدة القاع بالتحديد، وهي البلدة المسيحية التي نالت نصيبها من الإرهاب التكفيريّ.
وإذا كان تكريس هذه المعادلة من قبل بعض من خاضوا المعارك الشرسة لشطبها من البيان الوزاري قبل غيرهم أعطى، في مكانٍ ما، مشروعيّة، ولو نسبيّة، لسلاح "حزب الله"، كونه استُخدِم في حماية الحدود وتحريرها من مسلحين احتلّوها في ظلّ وضع سياسيّ سادت فيه الفوضى وفلتت الحدود، فإنّ ما لا شكّ فيه أنّ رعاية الدولة اللبنانية، ممثّلةً باللواء عباس ابراهيم، لـ"الصفقة" التي حُرّر بموجبها أسرى "حزب الله" شكّلت هي الأخرى مكسباً عاليًا بالنسبة للحزب، خصوصًا أنّ هذه "الصفقة" لم يقم بها اللواء ابراهيم من تلقاء نفسه، بل بـ"مباركة" خصم الحزب الأشرس في هذه المعركة وغيرها، ألا وهو رئيس الحكومة سعد الحريري، وهو ما أكّده الأخير خلال لقائه اللواء ابراهيم قبل يومين.
انتصار لمشروع؟
وأبعد من المكاسب التي حقّقها "حزب الله" في الداخل اللبناني من معركة الجرود، فلا شكّ أنّه حقّق أيضًا مكاسب موازية، إن لم تكن مضاعفة، على صعيد مشروعه العام، خصوصًا أنّ المعركة التي جرت في جرود عرسال ليست معزولة عمّا سبقها وسيلحقها من معارك انخرط بها "حزب الله" ليس في سياق الحرب السوريّة فحسب، بل ضمن حربٍ أشمل ينخرط بها في مواجهة الإرهاب، وإن كان البعض يربط ذلك بأجندةٍ إقليميّة يلتزم بها الحزب، ولا علاقة للمصلحة الداخلية بها.
وفي هذا السياق، يبدو واضحًا أنّ معركة جرود عرسال، كما كانت أساسيّة ومفصليّة بالنسبة للداخل اللبناني لجهة دحر إرهابيّي "النصرة" من المنطقة الحدوديّة الفاصلة بين لبنان وسوريا، فهي كانت جوهريّة ومفيدة أيضًا بالنسبة للنظام السوري وحلفائه، الذين تخلّصوا بنتيجة هذه المعركة من "حملٍ ثقيل" على الحدود، لم يكونوا قادرين على إنهائه دون هجومٍ برّي تولاه عناصر "حزب الله"، ولذلك بالتحديد كانت المؤازرة التي أمّنها الجيش السوري للحزب من خلال الغارات المكثفة التي شنّها على مواقع المسلحين قبل المعركة وأثناءها. وإضافةً إلى ذلك، فقد ساعد الإنجاز الذي تحقّق النظام السوري وحلفاءه على استعادة السيطرة على ما بات يصطلح على تسميتها بـ"سوريا المفيدة"، وهي حزام المناطق المدنية بدايةً من العاصمة دمشق مروراً بمدن الساحل حتى مدينة حلب في الشمال، علمًا أنّ إخلاء المنطقة الحدودية يساعد النظام السوري على بسط سيطرته على منطقةٍ واسعةٍ كان لمعارضيه نفوذ فيها، مع تهجير هؤلاء إلى منطقة محدودة جغرافيًا ومكانيًا باتت تُعتبَر محسوبةً عليهم.
وأبعد من هذه الأمور اللوجستية والموضعية، فإنّ ما أنجز حقّق لـ"حزب الله" مكسباً ذاتياً آخر، قد يكون الأهمّ بالنسبة إليه، إذ إنّه ثبّت من خلاله مقولة "لا نترك أسرانا" التي لطالما رفعها أمينه العام السيد حسن نصرالله شعاراً، ولعلّ حصر المعركة مع "النصرة" يعود بالدرجة الأولى إلى وجود أسرى وجثامين لعناصر الحزب لدى التنظيم المسلّح، وقد وضع نصب عينيه استعادتهم منذ اليوم الأول، وقد انطلقت المفاوضات التي جرت من هذه النقطة بالتحديد، علمًا أنّ البعض لم يتردّد في تشبيه مشهد عودة الأسرى بالأمس بمشهد عودة الأسير سمير القنطار من السجون الإسرائيلية، بعد حرب تموز 2006.
حتى يكتمل المشهد...
قد يكون وزير الداخلية محقاً بإيحائه أنّ معركة جرود عرسال لم توحّد اللبنانيين، وقد يكون من ترحّموا على "هيبة الدولة" محقّين أيضًا، ليس لأنّ "حزب الله" صادر قرار الحرب والسلم كما يقولون، باعتبار أنّه لم يكن ليخوض المعركة من دون ضوءٍ أخضر ولو مبطن، بل لأنّ الدولة بدل أن تكون المبادرة تحوّلت لرعاية اتفاق وقف إطلاق النار ليس إلا، وساهمت فيه من خلال إطلاق موقوفين، ولو قالت أنّهم غير خطيرين.
إلا أنّ ذلك كلّه لا يدحض واقع أنّ "حزب الله" خرج رابحًا من المعركة، وقد حقّق مكاسب سياسية تفوق تلك العسكرية، ليبقى الأمل أن يكتمل المشهد بعودة رهائن الجيش المختطفين لدى "داعش"، والذين سيبقون "جرحًا نازفًا" للوطن، حتى إشعارٍ آخر...