يعيش لبنان تجربة قد تكون الأولى في تاريخه. إذ لم يسبق أن دعمت غالبية لبنانية واضحة قيام الجيش اللبناني بعملية عسكرية تستهدف حماية حدود البلاد وأمنها. وفي كل مرة، كان الجيش طرفاً في مواجهة عسكرية، كانت جماعة لبنانية تعتبره خصماً مباشراً أو غير مباشر لها. والحديث عن غالبية لا يتصل بثقة لبنانية شاملة وعمياء بالمؤسسة العسكرية، بقدر ما يتعلق بكون غالبية لبنانية كبيرة جداً مقتنعة بأن تنظيم «داعش» إنما يشكل عدواً حقيقياً للبلاد وأهلها.
ولهذه المعركة أسرارها وحساباتها وتعقيداتها. وإلى أجل قد لا يكون بعيداً جداً، سوف تظل بعض المعطيات بشأن القرار مكتومة، لأسباب تتعلق بصورة المؤسسة العسكرية أولاً، وحساسية السلطة السياسية ثانياً، وطبيعة المعركة ثالثاً. لكن الثابت من المعطيات يمكن إيجازه بالآتي:
أولاً: إصرار خاص من الرئيس العماد ميشال عون على تولي الجيش مهماته الوطنية بأسرع وقت ممكن، وعدم إبقائه مقيد اليدين نتيجة الحسابات الخارجية المنعكسة على القوى الداخلية. وترجم رئيس الجمهورية إصراره باختياره الضابط جوزيف عون قائداً للجيش، ورفض التسويات التي عرضت سابقاً عليه، وإبلاغه قائد الجيش الجديد أن مهمته واضحة في إعادة ترميم المؤسسة العسكرية، وعدم الاقتراب من السياسة مطلقاً، لا على صعيد قائد الجيش نفسه ولا على صعيد الهيئات الأركانية فيه. كما أن الرئيس أكّد لقائد الجيش ولحشد من الضباط المعروفين بتأييدهم للرئيس عون، أن المهمة الأساس هي في توفير حصانة داخل المؤسسة العسكرية تساعده على إبعاد التدخلات السياسية فيه سريعاً.
ثانياً: تفهم رئيس الجمهورية وتأييده المطلق وغير المشروط لدور المقاومة في مواجهة الإرهاب التكفيري، سواء في سوريا نفسها، أو على صعيد العمل الدفاعي والوقائي والاستباقي، وثقة الرئيس عون بقدرات المقاومة التي تعرّف إلى جانب كبير منها من خلال محادثاته الطويلة مع الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله. وكقائد سابق للجيش، ينظر عون ناحية الخصوصية التي تتمتع بها المقاومة. وهو في هذا المجال، كان مشجعاً على خوض معركة جرود عرسال، وكان يرغب لو أن الجيش اللبناني يقوم بها، لكن واقعية الرئيس جعلته يعرف أن دور الجيش في هذه المعركة سيكون معقداً بسبب الحاجة الى التقدم من الجهة السورية صوب الجهة اللبنانية، ثم لكونه أدرك أن نجاح المقاومة في تنظيف جرود عرسال من إرهابيي جبهة النصرة سوف يساعد الجيش على تولي معركة بقية الجرود. وموقفه هذا كان على طاولة قيادة المقاومة منذ اليوم الأول، وهو الذي يسخر من مواقف قوى محلية تعترض على التنسيق مع الحكومة السورية وجيشها.
ثالثاً: خضوع الولايات المتحدة، ومن خلفها حلفاؤها في المنطقة، ثم في لبنان، للقرار المحسوم بتولي الجيش المهمة، وهو ما ترجمه موقف الرئيس سعد الحريري من جهة، ثم ما تبعه من تواصل تولته قيادة القوات الأميركية العاملة في منطقة الشرق الأوسط، والتي أدركت أن الأمر حاصل حكماً، فسارعت الى التشاور والتنسيق بهدف فرض قواعد معينة على خلفية سعيها الى عدم حصول اندماج عملياتي بين المقاومة والجيش، ورغبة منها في عدم توسيع باب التنسيق مع الجيش السوري. لكن الخشية الأميركية تكمن أنه في ظل تسارع التطورات العسكرية والسياسية في المنطقة، قد تجد نفسها خارج التأثير على الجيش اللبناني إن هي تجاهلت المعطيات الجديدة. لذلك، فإن ردود الفعل الأميركية السياسية والعسكرية على دور الجيش في معركة تحرير جرود عرسال من «النصرة» أتت عكس التوجه الأميركي، وخصوصاً أن قيادة المنطقة الوسطى كانت تتابع بدقة تفاصيل معركة حزب الله في الجرود، وهي على اطلاع على شكل التنسيق ونوعه بين المقاومة والجيش، من إخلاء الجيش نقاطاً عسكرية احتاجت إليها المقاومة في عملية الاقتحام، إلى عمليات الإسناد الناري التي قام بها الجيش في أكثر من محطة خلال أيام المواجهات الثلاثة، حتى وصل الأمر بمسؤولين أميركيين الى سؤال الجيش عن سبب إطلاقه كمية كبيرة من القذائف خلال دعم معركة المقاومة (نحو 300 قذيفة مدفعية). وفيما حاول الجانب السياسي الأميركي تقديم ملاحظات ذات طابع احتجاجي، كان الجانب العسكري الأميركي يسأل قيادة الجيش عن حجم مخزونها من الصواريخ والقذائف بغية تغذيته متى تطلب الأمر، في خطوة كانت تشير بوضوح الى إقرار الأميركيين بالوقائع الميدانية.
رابعاً: حاجة الجيش اللبناني الملحة الى القيام بعمل يستعيد فيه أصل مهمته، واستثمار الأمر في تطوير بنى المؤسسة، وإعادتها الى سكة العمل المهني بعد طول انقطاع، ورفع المعنويات والثقة بالمؤسسة من العاملين فيها قبل الجمهور، والسعي الى تعزيز الخبرات لمجاراة التطورات الهائلة على العقائد العسكرية لكامل جيوش المنطقة. وأكثر من ذلك، فإن قيادة الجيش تنظر باهتمام الى عدم انهيار الجيش السوري، وإلى استعادة الجيش العراقي زمام المبادرة، ذلك أن في هذه الخطوات ما يحدّ من موجة انهيار الجيوش. لكن قيادة الجيش هنا، تعرف أن الجيش السوري كما الجيش العراقي، احتاجا الى عناصر دعم لنجاح عملياتهما في مواجهة الإرهابيين، والأساس هنا هو عنصر الدعم المحلي الذي تمثل بالحشد الشعبي عراقياً، وبحزب الله وقوات الدفاع الوطني سورياً، ما يقود الجيش الى عدم الخوف من تعميم النموذج في لبنان مع قوة مثل حزب الله وهي التي تملك خبرات تتجاوز الآخرين على جميع المستويات. وحاجة الجيش الى انتصار حاسم وواضح وأكيد تتطلب تصرفاً علمياً وعقلانياً في توفير موجبات النصر. ولذلك، فإن الجيش يفتح باب التنسيق بما يخدم هدفه. وسوف يقوم بكل ما يلزم لتأمين النجاح، عير آبه بكل الملاحظات الكيدية.
خامساً: للمرة الأولى، تختفي خشية جهة مثل حزب الله من الجيش كقوة عسكرية يجب حمايتها وتعزيز قوتها من دون الخوف من انقلابها على المقاومة أو على الثوابت الوطنية. هذا لا يعني أن المقاومة لم تكن تثق بالجيش في فترات سابقة، لكن الدور السوري في السابق كان عاملاً مسانداً وبقوة، أما اليوم، فإن ثبات موقف الجيش ومن خلفه قوى وازنة في البلاد، وسط الصراعات الإقليمية والدولية على قرار الجيش، يجعل حزب الله أكثر اطمئناناً. حتى إن الحزب يعرف أكثر من أي أحد آخر طبيعة العلاقة التي تربطه بالجيش على الأرض في أكثر من منطقة من لبنان، وخصوصاً في منطقة الحدود الشرقية للبنان. إضافة الى ملف ستظل أسراره مكتومة أيضاً، يتصل بالحرب القاسية التي تخوضها المقاومة واستخبارات الجيش اللبناني ضد الجماعات الإرهابية وعملاء إسرائيل في لبنان، وحيث يبلغ مستوى التنسيق حدوداً غير مسبوقة. ولذلك، فإن حزب الله الذي يعرف حجمه وقدراته وقوته ونفوذه، يجد من المصلحة الواضحة له تولي الجيش المهمات التي تتيح له دوراً وطنياً يقوم على عقيدة تتطابق مع عقيدة الحزب في مجال الصراع مع إسرائيل ومع المجموعات الإرهابية. والحزب الذي يعرف حجم الضغوط على الجيش، ولا يريد أن يحرجه في أي حال، لن يكون خارج المعركة. ليس لرغبته في تسجيل نقاط جديدة في رصيده الفائض أصلاً، بل لكونه يعرف مسؤوليته في دعم الجيش لمنع جره الى حرب استنزاف طويلة، ولمنع المجموعات الإرهابية من تحقيق أي نجاح على هذا الصعيد. وستكون معطيات أجهزة الاستخبارات في المقاومة وقواها العاملة على الأرض في خدمة الجيش، غير آبه هو الآخر بالملاحظات الكيدية.
إن ما يجري الإعداد له سوف يمثل نقطة تحول هائلة على مستوى القرار الاستراتيجي في لبنان، وهو ما سينعكس على كل الأمور الأخرى في البلاد، وعلى صعيد علاقته بالإقليم والعالم... لننتظر ونرَ!
خطة الاستعدادات لـ«أسبوع الحسم»: عسكرياً وإعلامياً
تكشف معلومات مصادر معنية بالمعركة أن التحضيرات القائمة لمعركة الجرود تتسارع، وأن البحث يدور حول تنفيذ خطوات تصب في دعم خطة المعركة؛ منها:
أولاً: إقفال ملف «سرايا أهل الشام»، من خلال تأمين نقلهم مع نحو 2500 من النازحين الى داخل سوريا، وهو أمر ضروري لأنه يوفر إخلاء المنطقة الواقعة بين مواقع الجيش ومواقع المقاومة، بالإضافة الى عدم ثقة الجهات العسكرية والأمنية بهذه العناصر طالما بقيت في أماكنها ومع أسلحتها، وخصوصاً أنها خالفت تعهداً خلال معركة جرود عرسال ولم تُخلِ إحدى النقاط، ما تسبب باستشهاد عناصر من المقاومة. وبالتالي، ليس من مصلحة أحد ترك هذا الخطر قائماً.
ثانياً: استكمال الجيش عملية نقل القوات المقرر مشاركتها في المعركة، وخصوصاً تلك المنتشرة شمالاً وبعض أفواج التدخل، وتوفير انتشار سريع يتيح لهذه العناصر التعرف إلى طبيعة الأرض، بالإضافة الى نقل الذخائر سواء المدفعية منها أو الصاروخية التي تفي بحاجات المعركة.
ثالثاً: إنجاز الترتيبات وعمليات التنسيق التقني الخاصة بسلاح الجو، وهو أمر يتم بالتعاون مع الأميركيين الذين ينشرون عدداً من خبرائهم في مطار رياق لخدمة طائرات «السيسنا»، وتوفير المعلومات الاستخبارية الواردة من عمليات الرصد التقني التي تقوم بها الولايات المتحدة فوق سوريا كلها.
رابعاً: إنجاز المرحلة الأولى من التنسيق العملياتي مع الجيش السوري ومع المقاومة بما خص الجبهات الأربع، وبما خص التنسيق الناري المطلوب خلال المعركة، والتفاهم على آليات عمل لحصر المسلحين تدريجاً في مربع قد ينحصر عند خط الحدود بين البلدين، والتعاون بما خص وضع إطار يمنع أي محاولة لإطالة المعركة، وإفساح المجال أمام الجيش للقيام بعمليات برية نظيفة قدر المستطاع. ويجري ذلك على أساس أن الجبهات سوف تعمل وفق توزيع يقول بأن الجانب الشمالي الغربي والجنوب الغربي ستتولاه قوات الجيش، أما الجانب الجنوبي والجنوب الشرقي فتتولاه المقاومة، وتتولى المقاومة مع الجيش السوري الجانب الشرقي والشمالي الشرقي.
خامساً: يتم وضع اللمسات الأخيرة على خطة عمل لمديرية التوجيه في الجيش تتصل بالجانب الإعلامي، حيث يفترض إعداد قاعة من غرفة العمليات يتولى ناطق عسكري تقديم بيان يومي بنتائج العمليات، بينما تتولى مديرية التوجيه نشر تقارير مصورة ومعلومات حول سير المعارك.
وقد أنجزت مديرية التوجيه إعداد فرق سوف تكون إلى جانب القوات خلال العمليات، بالإضافة الى تجهيزات تقنية يتم وضعها مع القوات المتقدمة لأجل توفير الصورة الإعلامية المناسبة، علماً بأنه سيصار الى إطلاق حملة إعلامية واسعة في البلاد بمشاركة جميع الوسائل الإعلامية وحشد من الفنانين لتوفير الدعم المفتوح للجيش.
قصة التفاوض مع «داعش»
قبل انطلاقة معركة المقاومة في جرود عرسال، انطلقت التحضيرات العملانية لمعركة بقية الجرود. وإذا كان قرار تكليف الجيش بالقسم الثاني من المهمة حُسم نهائياً في اليوم الثاني من معركة المقاومة، فإن أشياء كثيرة دخلت من ساعتها في سياق الاستعدادات الأمنية والعسكرية والسياسية.
لم يكن فصل معركة جرود عرسال عن بقية الجرود أمراً تكتيكياً فقط، بل كان حاجة عسكرية من جهة، ومناسبة لاختبار آليات جديدة من التنسيق بين القوى المنتشرة على جانبي الحدود اللبنانية ــ السورية. ومثلما كان خط التواصل مع جبهة النصرة مفتوحاً بقوة، كان هناك خط آخر، أقل سخونة، قد فتح مع وسطاء على صلة بتنظيم «داعش» المنتشر في الجزء الآخر من الجرود. ورغم الفوارق بين الطرفين الإرهابيين، على مستوى اتخاذ القرار والهدف وآليات العمل، إلا أن مبدأ التفاوض هو ذاته: عرض بالخروج الآمن من المنطقة مقابل عدم خوض المعركة.
وفي معلومات تبقى شحيحة عن التفاوض غير المباشر مع «داعش»، أبدى عناصر من التنظيم من الجنسية السورية تجاوباً أوّلياً، لكنّ هؤلاء كانوا يؤكدون أن القرار النهائي سيصدر عن قيادة التنظيم في الرقة، ومن دون إقفال الأبواب. ورغم تعنّت «جبهة النصرة» الذي عجّل في المعركة العسكرية، إلا أن «داعش» تصرّف بحذر كبير، علماً بأن قيادته كانت تعرف أن دخول التفاوض الفعلي يحتاج الى قرار من «داعش» بكشف مصير الأسرى من جنود الجيش اللبناني، وهو ما لم يحصل. وظلت المعلومات حول مصير هؤلاء خاضعة لتدقيق أمني دائم.
وبمعزل عن تفاصيل لا يبدو أن هناك مصلحة في الحديث عنها الآن، إلا أن داعش بادر الى إبداء ليونة من خلال عدم مشاركته في المعركة الى جانب النصرة، مقابل عدم شنّ هجوم مباغت ضده. وعملياً، كل ما فعله التنظيم خلال المعركة هو إعادة نشر قواته في الجرود، والإبقاء على ممر ضيق يتيح لمن يرغب من عناصر «النصرة» النفاذ الى مناطق داعش، شرط إعلان مبايعة علنية لإمارة أبي بكر البغدادي، وهو أمر لم يحصل إلا على نطاق ضيّق، ولم يكن له مفعوله الكبير، سيما أن عناصر النصرة الذين ظلوا على سلاحهم مع بدء المعركة (عددهم يصل الى 350 مسلحاً) كانوا قد حسموا التزامهم بما تقرره قيادة «النصرة»، وسمعوا رسائل واضحة بهذا الشأن، ليس من أبو مالك التلي وحده، بل من أبو محمد الجولاني الذي كان يتابع المعركة من منطقة إدلب.
وفي خطوة هي الأولى من نوعها، أبدت الحكومة السورية موافقة مبدئية على تسهيل تنفيذ أي اتفاق فيه ضمانة بنقل عناصر داعش الى منطقة الرقة، علماً بأن اتفاقاً من هذا القبيل كان شديد التعقيد ربطاً بالمعارك الجارية في البادية وشقّ الجيش السوري وقوات المقاومة الطريق نحو دير الزور.
على أي حال، فإن المعلومات تشير الى وجود ما يقارب 750 مسلحاً مع داعش في المنطقة الواقعة بين لبنان وسوريا، وأن هؤلاء لا يتمتعون بتسليح استثنائي، لكن ما يميّزهم عن مسلحي النصرة هو قرار تنفيذ عمليات انتحارية، والسعي الى حرب استنزاف من خلال الاتّكال على القناصة والعبوات والكمائن.