– في أول محاولة لقراءة التحوّلات المحلية والإقليمية والدولية بعين غير عين الزجاج التي لا يرفّ لها جفن، وبروح غير روح إعلان بعبدا القائمة على الجفاف ومعادلات الخشب والنحاس أملاً بالذهب، قدّم الوزير الكتائبي السابق مرتين، بوزارته وكتائبيته، والإعلامي دائماً سجعان قزي، محاولة لتفسير تنامي قوة حزب الله ومكانته، متخطياً اللطم والندب والشتيمة، كمتلازمات لخطاب الفريق الذي انتمى إليه خلال سنوات وحمل لقب الرابع عشر من آذار، والذي كانت قضيته ولا تزال مناصبة حزب الله العداء، والطعن بلبنانية، يدّعيها هذا الفريق لنفسه ويدّعي امتلاك خاتمها السحري لمنح صفة اللبنانية ونزعها عن الآخرين.
– التركيبات اللغوية ساعدت الوزير والكتائبي السابق والإعلامي دائماً، سجعان قزي، أن يصف الراهن وسياق تطوّره، وخلاصته أنّ حزب الله يملك اليد العليا في التطورات اللبنانية، وأنّ ما يخالفه خصومه عليه سرعان ما يصير مقبولاً منهم، ولو بالتورية والتعمية، وأنّ هذا السياق جزء من سياق أعمّ يشمل المنطقة، من حرب سورية إلى الملف النووي الإيراني، حيث الغرب والعرب يفعلون ما يفعل حلفاؤهم في لبنان، أو العكس هو الأصحّ، حيث يستسلم الأميركي لصبر إيران وثباتها سواء في العراق أو في الملف النووي ويستسلم الغرب لروسيا وإيران وسورية ومعهم حزب الله في مستقبل الرئيس السوري ومكانته في معادلات مستقبل بلده.
– توصيف مشاهد انتصارات حزب الله والمحور الذي ينتمي إليه، مقابل هزيمة فريق الرابع عشر من آذار والمحور الذي ينتمي إليه، صحيح، لكن في قلب التركيبات اللغوية يمرّر الكاتب ثلاثة استنتاجات لا تستقيم مع الواقع ولا تفسّره، ولا تعبّر عن حقيقة القائم ولا القادم، والثلاثة تتصل، بكيف حصل ذلك، وماذا يريد حزب الله فعلاً، وكيف سيكون شكل لبنان بوحي الإثنتين، والكاتب يضع كلّ ما كتب تحت عنوان، حزب الله يحكم لبنان، ليصل إلى أنّ هذا الحكم الضمني والمستور سيتحوّل إلى حكم معلن وصريح، وسيكون حزب الله المفاوض البديل عن الدولة في القريب المقبل، طالما هو القويّ القادر.
– نبدأ من نقطة الانطلاق التي ساقها الكاتب للتحوّل الكبير وقد اختارها في العام 2000 مع تحرير جنوب لبنان من الاحتلال «الإسرائيلي». وبالفعل القضية تبدأ من هنا. والتفسير كامن هنا وقد حاول الكاتب عدم الغوص فيه، ذاهباً لسبب يتصل بعدم استعداد العرب لإنفاق ريال و وتحريك ساكن أو تحريك ساكن لأجل حليفهم اللبناني، ويومها لم يكن شيء من هذا، ولا كانت بداية حكم وتحكّم، بل بداية سيرة ومسيرة التفوّق الأخلاقي، فمنذ اتفاق الطائف الذي قبله أغلب اللبنانيين، ومن رفضه منهم لم يرفض فيه تعريفه معادلة الهوية ومنهم حزب الله الذي لم يكن شريكاً ولا متحمّساً للطائف، لكنه راض كما ارتضى الموافقون والمخالفون على تعريف سورية كشقيق و«إسرائيل» كعدو، وعلى موقع لبنان في الصراعات الكبرى. وفيما انصرف الآخرون إلى لعبة السلطة، ولم يصرفهم إليها حزب الله، وانصرف حلفاؤهم الإقليميون والدوليون إلى التغطية على عجز أدواتهم الدبلوماسية عن تحرير الأرض من الاحتلال، تركوه وحده يجيب عن سؤال، كيف سنحرّر الأرض، والجواب ليس بالإنشاء العربي ولا بالكلمات الرنانة، بل ببذل الدماء، ولا أحد لديه جواب عن متى وكيف ستثمر الدماء تحريراً؟
– تميّز حزب الله عن الآخرين بالصدق والمصداقية، فما قاله الآخرون رفع عتب، قاله هو بصدق. وما قاله بصدق تعامل معه بمصداقية حتى التضحيات. هكذا كان الحال مع العدو «الإسرائيلي»، وكذلك كان مع الشقيق السوري، فهو لم ينظر ويتعامل مع سورية طيلة فترة وجودها في لبنان كعصا غليظة يستعمل العلاقة معها لنيل مكاسب في السلطة وبقرة حلوب لمراكمة العائدات، كما فعل الذين شهروا بوجهها سلاح السيادة والاستقلال، عندما قرع الأميركي والغرب والعرب جرس القرار 1559، لاعتباراتهم وساقوا وراءهم قطيعاً لبنانياً، سيبيعونه بأبخس الأثمان عندما يدق جرس آخر، أو عندما يكتشفون أنّ كلفة المعركة صارت أكبر من عائداتها المرتجاة. قال حزب الله بصدق وتصرّف بمصداقية حتى الشهادة في الأمرين، العداء لـ»إسرائيل» والأخوة مع سورية، وكذب أو تهرّب أو تلاعب سواه بالأمرين معاً وافتقدوا الصدق والمصداقية. ولا يفيد هنا الحديث بالتبرير عن اعتبارات وولاءات تفسّر ذلك، لأنّ للآخرين اعتبارات وولاءات. وعبقرية السياسة هي أن تنتج من الاعتبارات والولاءات معادلة تواظب على الصدق وتثابر على المصداقية.
– في كلّ الملفات التي تعرّض لها مقال الكاتب من التحرير إلى الملف النووي الإيراني، إلى الحرب في سورية، القضية هي قضية صدق ومصداقية، فكيف سيستقيم حديث عن ثورة تبغي الديمقراطية يدعمها خصوم حزب الله تحت هذا العنوان. وهي ثورة مقيمة بين أحضان حكام الخليج الذين لا دساتير لبلادهم ولا انتخابات فيها، وحزب الله لم يخض حربه في سورية تحت عنوان الدفاع عن ديمقراطية النظام الحليف، بل شهد بنواقصها وأعلن استعداده لوساطة من أجل إصلاح يطالها. وقال في المقابل إنه يدافع عن كون سورية ظهراً وسنداً للمقاومة. وهو هنا كان في قمة الصدق وتصرّف في الإثنتين بذروة المصداقية فسعى لوساطات متكرّرة عنوانها تسوية سياسية تنشد الإصلاح، وقاتل ببسالة دفاعاً عن قلعة صادقة مع المقاومة وسند لها. وفي الملف النووي الإيراني السلمي، هل كان المعترضون على تشريعه يقومون بفتح ملف السلاح النووي «الإسرائيلي» الذي يهدّد المنطقة والعرب فيها خصوصاً، ووضعوا ضوابط امتلاك إيران للقدرة النووية ضمن تراتبية تنسجم مع حجم القضية وتسلسل الأخطار، حتى يتفوّقون بالصدق ويتميّزون بالمصداقية؟
– حزب الله المتفوّق في معادلات الإقليم أخلاقياً، مثله مثل حلفه، متفوّق داخلياً، فهو لم ينجح في تمهيد الطريق ليصير حليفه العماد ميشال عون رئيساً للجمهورية بقوة الفرض، وقدرة الحكم والتحكم، بل بالتفوّق الأخلاقي أيضاً. فقارب الرئاسة وفقاً لمعادلة التوازنات الطائفية بالقول، الأقوى في طائفته يتولى مناصبها عند المسلمين شيعة وسنة، فلماذا حلال المسلمين، وهو المسلم، يصير حراماً على المسيحيين، وإلا فلماذا لم يرشح حزب الله للرئاسة حليفه العماد إميل لحود وقد صار بعد غياب ست سنوات عن الرئاسة مؤهّلاً دستورياً للترشح لولاية جديدة؟ وما المغزى من قبول حزب الله بتولي الرئيس سعد الحريري رئاسة الحكومة إلا مغزى دعم ترشيح العماد عون لرئاسة الجمهورية ذاته؟ الصدق والمصداقية في التعامل مع توازنات الديمقراطية التوافقية، التي يراها الآخرون، كما كان أهل الجاهلية يرون آلهتهم، يصنعونها من تمر ليعبدوها وعندما يجوعون يأكلونها. وحزب الله لا يأكل مبادئه ولا لحم أشقائه وإخوته، ولهذا أخطأ الكاتب واشتبه عليه الأمر بأنّ القضية قضية حذاقة في النجاح بوضع الخصوم في موقع دفاع، رغم أحقية مواقفهم، بينما الحقيقة أنّ حزب الله وضعهم في موضع دفاع خجلاً من مواقفهم.
– في الفوارق بين الحكم والتفوّق يقع الكاتب في خطئه الثاني وهو الأخطر، فيفسّر هدف حزب الله من تنمية مصادر قوته، لتحقيق مشروعه الاستراتيجي، كما يقول بتوسيع حصة الشيعة في نظام لبنان الجديد. وهنا لن نناقش مقارنات الزهد والنهم في التعامل مع السلطة بين حزب الله وخصومه، ولا حكاية أهل الغرم وأهل الغنم في العلاقة بالدولة، بل سنسأل سؤالاً يملك الجميع جواباً واضحاً صريحاً عليه، إن كان هذا هو المشروع الاستراتيجي لحزب الله، توسيع حصة الشيعة في النظام اللبناني معطوفاً على توسيع حصة الشيعة في المنطقة، فهل كانت حرب على سورية ومشكلة في ملف إيران النووي وقضية اسمها سلاح حزب الله، أو عقوبات دولية، لو قال حزب الله وقالت سورية وقالت إيران، إن لا مشكلة بالاعتراف بـ«إسرائيل»، وفلسطين شأن الفلسطينيين وحكومتهم. أيفوت الكاتب أنّ هذه عروض قدّمت لسورية وحملها وزير خارجية اسبانيا الأسبق ميغل أنخل موراتينوس قبيل الحرب عليها، ووزير خارجية دولة الإمارات عبدالله بن زايد في منتصف الحرب ووزيرا خارجية تركيا وقطر في بدايات الحرب، والمبعوث الفرنسي الخاص موريس غوردو مونتاني قبل صدور القرار 1559، وفي العرض ضمانات لحماية النظام، ولو صار وراثياً بالكامل، كأنظمة الخليج، ومشروع مارشال لتمويله ومعهما عودة الجولان، ولإيران حمل وزير خارجية عُمان يوسف بن علوي عام 2008 عرضاً موازياً والمضمون واضح جليّ، ملف نووي شرعي وزعامة الخليج ودور في العراق وأفغانستان، لكن دعوا فلسطين للقيادات الفلسطينية ونحن نتدبّرها، ولحزب الله، يكفي طرح السؤال: ماذا لو قبل حزب الله؟
– القضية، يا صاحب المعالي، ليست توسيع حصة الشيعة في حكم هنا أو هناك، وحيث هم مواطنون وجماعة متساوون بالحقوق والواجبات وفقاً لنظام الحكم، المتوافق عليه في بلاد ينتمون إليها، أكان مدنياً أم طائفياً، بسائر المواطنين والجماعات، لا يطلبون ولا يرتضي حزب الله أن يدعمهم، إلا بسقف التساوي مع أبناء وطنهم وسائر الجماعات فيه، بالحقوق والواجبات كأفراد أو كجماعة، فهل هذا مشروع استراتيجي للتوسّع؟
– أما إلى أين؟ فبالتأكيد ليس لتفاوض مع الغرب بديلاً عن الدولة اللبنانية، التي يريدها حزب الله بصدق دولة قوية قادرة، لكن المشكلة في أن يرتضي سائر الشركاء فيها بكونهم ينتمون لوطن يريدونه قوياً عزيزاً، وليس لمزرعة يحدّدون رضاهم عنها بقياس مقدار حليب بقراتها.
– عندما يقرأ حزب الله بصدق ويعامل بمصداقية تسهل الأمور وتتبسّط المعادلات، وما فعله معالي الوزير والكتائبي، السابق مرتين، والإعلامي دائماً، أنه فتح نقاشاً جريئاً وقال كلاماً غير مسبوق من موقعه، وبهذا فهو كمن اجتهد فله إنْ أصاب أجران وإنْ أخطأ أجر واحد، والأجر هنا عند الله، وليس أجراً من ريالات يتّهم العرب بالبخل بها ولا بساكن لم يحرّكوه، لأنه في المقابل لم ينتصر حزب الله إلا بالتفوّق الأخلاقي، وليس بوفرة ريالات وتحريك سواكن، لكن البركة تحلّ بالمال الحلال والمنذور لقضية حق.