– تدور رحى حرب باردة تسخن وتخبو كبراكين أميركا اللاتينية بين حين وحين، وينقسم حول ضفتيها المجتمع في فنزويلا، بصورة جلية إلى معسكرين، واحد يضمّ الرأسمال واليمين والنخب الليبرالية، وآخر يضمّ أغلب الطبقة الوسطى ويستند إلى الطبقات الشعبية والفقيرة واليسار ونخب مثقفة ترعرعت على فكر الاستقلال الوطني ومناهضة الهيمنة الأميركية، وليست مهمّتنا التهوين من الأزمة وتصويرها مجرد مؤامرة. والمؤامرة تعني خطة حرب موجودة ولم تكبر الأزمة من دونها، كما لن يفيد المقلب الآخر دولياً ومحلياً تصويرها مجرد مواجهة بين دعاة الديمقراطية وخصومها، فهي أزمة خيارات كبرى تتصارع على ساحة أميركا اللاتينية وفي قلبها فنزويلا، التي حملت الراية وقادت التحوّل التاريخي في القارة نحو الاستقلال الوطني، والاقتصاد القائم على دور محوري للدولة في إدارة قطاعات النفط وتأمين الضمانات والخدمات الرئيسية للفئات الفقيرة.
– الصراع في فنزويلا ليس جديداً ولا في القارة كلها، والحركة البوليفارية ومثلها الساندينية ليستا مستورداً خارجياً، والطبقة الرأسمالية ليست هامشية ولا قوى اليمين، ولا النفوذ الأميركي بقوة الحضور الجغرافي، ولا النفوذ الصهيوني بتأثير تاريخية العلاقات والوجود الديمغرافي والتأثير الإعلامي والثقافي، والأكيد أنّ ما تحقق على يد الشخصية القيادية التاريخية للرئيس الفنزويلي الراحل هوغو تشافيز كان فائضاً على قدرة التحمّل الأميركية، ومبهراً في حجم الإنجاز، وكان التوقع في السنوات الأخيرة من عهده الرئاسي أن يلجأ الخصوم الداخليون والخارجيون لاستثمار لحظة رحيله لتنظيم الهجوم المضادّ، وكان طبيعياً أن يمنح وصول رئيس وإدارة تؤمنان بالتطرف إلى البيت الأبيض إشارة البدء للثورة المضادّة.
– الحلف الذي خاض الحرب على سورية هو ذاته يخوضها على فنزويلا. وفي الحالتين يستند إلى بنى طفيلية في المجتمع تستقطب المهمّشين وسكان العشوائيات، ويستقوي بمال الخليج والمخابرات «الإسرائيلية» وثقل الضغط الأميركي. فقد ذهبت فنزويلا في مواقفها دفاعاً عن الحق إلى حيث لا يمكن أن يسامحها أطراف هذا الحلف، فبينما كان حكام العرب يطلبون من القيادات «الإسرائيلية» في حرب تموز 2006 وحرب غزة 2008، المزيد من القتل والخراب والدمار، ومعهم بعض اللبنانيين، أملاً بكسر المقاومة، وقفت فنزويلا لتطرد السفير «الإسرائيلي» وتعلن وقوفها الحازم مع لبنان وفلسطين ومقاومتهما وشعبهما. ويوم دقت ساعة الحرب على سورية لم تتوان فنزويلا عن إشهار موقفها الحازم والحاسم، ولذلك لا يمكن لنا نسيان هذه الوقفات ولا مبادلتها إلا بمثلها، بإعلان الوقوف مع فنزويلا وقيادة الرئيس مادورو.
– لا يغيّر من هذه الحقيقة وجود فئة من المجتمع الفنزويلي تشبه ما عندنا، ففريق الرابع عشر من آذار ليس صناعة لبنانية، ولا ماركة لبنانية مسجلة، هو نموذج لأتباع واشنطن، والذين لا يُخجلهم انتهاك استقلال أوطانهم، وتعنيهم أرباح المصارف والوكالات الأجنبية أكثر من الكرامة الوطنية، ولا يرفّ لهم جفن إن رأوا الشعب يملأ الساحات، ولا يُخجلهم أن تتماهى مواقفهم مع «إسرائيل»، ولا أن يخوضوا حروب السيادة تحت صورة الملك السعودي أو من مأدبة في السفارة الأميركية، وأن يتباهوا بثورة ديمقراطية من عاصمة خليجية لم تعرف الدستور ولا الانتخابات، ومثلها قاد خراب سورية، ومثلها تُقاد اليوم محاولة أخذ فنزويلا للحرب الأهلية. فالانقسام ليس نقيصة، ورئيس أميركا يفوز بالرئاسة بلعبة انتخابية لا يزال التحقيق مستمراً حول درجة نزاهتها، وسقف الفارق للفائز بضعة أصوات وجزء من واحد بالمئة.
– تعنينا فنزويلا كثيراً، وقد سبقتنا بالقول لستم وحدكم، في لحظة مصيرية قاسية، وأقلّ الوفاء أن نقول لستم وحدكم في لحظة مشابهة.