كلّما سيقترب موعد الانتخابات النيابية المقرّرة في أيار 2018، سيزداد الخطاب السياسي والطائفي والمذهبي تشنّجاً لغايات انتخابية أكثر منها سياسية، إذ تَعوَّد كثير ممّن يخوضون السباق الانتخابي في بلد الأرز الذي تنخرُه الطائفية والمذهبية، اللجوءَ إلى مِثل هذا الخطاب «في الشدائد» لنَيلِ المقاعد النيابية، من دون أن يأبَهوا للأضرار السياسية الجسيمة التي يلحِقها بالنسيج الوطني والاجتماعي للبلد.
وفي الموسم الانتخابي المنتظر، يستبعد معنيّون أن يتغيّر الخطاب السياسي لأيّ من فريقَي 8 و14 آذار مع أنّهما انتهيَا كتسمية، وحتى كإطار تنظمي من دون إعلان، ولكن ستكون في الخطابين بعض «الإضافات» في ضوء التطوّرات التي يشهدها الواقع السياسي المشدود إلى الواقع الإقليمي بتعقيداته المتعدّدة، ولكنّ استغلال العامل الطائفي والمذهبي سيبقى الأساس لدى بعض الأفرقاء، ولا سيّما منهم أولئك الذين لم يحقّقوا في ما مضى مكتسبات سياسية ملموسة من شأنها أن تعزّز أرصدتَهم الشعبية والانتخابية.
وربّما سيتراءى للبعض أنّ الانقسامات ستَسود صفوفَ هذا الفريق أو ذاك، ولكن سيتبيّن أنّ هذه الانقسامات ليست إلّا من «عدة الشغل» الانتخابية وتعبيراً عن تبادل أدوار مدروس مسبَقاً بقصد كسبِ ودّ الناخبين والفوز بأكبر عدد ممكن من المقاعد في المجلس النيابي الجديد الذي سيُنتخب للمرّة الأولى على أساس النظام النسبي «الممشوح، بل الملغوم» بشيء من النظام الأكثري عبر «اللوائح المقفلة» و»الصوت التفضيلي» و»نصاب الإبعاد» وغيرها من المصطلحات التي لم يفهمها الناخبون بعد.
وفي هذا السياق، يقول نوّاب بارزون، أنْ ليس هناك اختلاف في صفوف تيار «المستقبل»، ومَن يظنّ عكس ذلك لا يفقَه من علوم «المستقبل» شيئاً، قد يكون هناك تبايُن في الرأي حول شأنٍ ما ولكن في الموقف من القضايا الاستراتيجية لا يوجد أيّ خلاف بين «المستقبليين» جميعاً.
وهذا الواقع ينطبق بالدرجة الأولى على المواقف الراهنة التي يتّخذها كلّ مِن رئيس الحكومة سعد الحريري ورئيس كتلة «المستقبل» الرئيس فؤاد السنيورة ووزير الداخلية نهاد المشنوق ممّا حصَل في جرود عرسال من عملية شنَّها «حزب الله» وأخرَج مسلحي «جبهة النصرة» منها، ففيما يتمايَز الحريري في الموقف عنهما إزاء هذه العملية، وكذلك المعركة المرتقبة في جرود رأس بعلبك والقاع، يَظهر فيه وكأنه متماهٍ مع ما حصَل بقوله إنّ «حزب الله» «أنجَز شيئاً ما» من دون أن يرحّب بهذا الإنجاز أو يشيد، فإنّ السنيورة والمشنوق لم يتغيّر موقفهما المعترض بشدّة على الحزب وسلاحه.
ويَروي سياسيون أنّ السنيورة والمشنوق لا بدّ لهما من أن يتّخذا هذا الموقف وربّما بالتنسيق المسبق مع الحريري، وذلك بغية استيعاب ما يَشهده الشارع السنّي من ردود فِعل ومواقف سلبية من «حزب الله»، وذلك تمهيداً لصيرورة الأوضاع الداخلية في النهاية إلى مزيد من التهدئة السياسية بعد إقفال ملف الجرود والحدود اللبنانية ـ السورية.
ويؤكد هؤلاء السياسيون انّ السنيورة والمشنوق، وربّما غيرهما من السياسيين المستقبليين، سيستمرّون على هذه الوتيرة من المواقف في قابل الايام والاسابيع والاشهر، دعماً للحريري في نهجِه الراهن والرامي الى تحقيق هدفين:
الاوّل: تعزيز علاقته وتدعيمها مع رئيس الجمهورية العماد ميشال عون وكذلك مع «التيار الوطني الحر» برئاسة الوزير جبران باسيل، ولا مانعَ لديه من الوصول بهذه العلاقة الى مرتبة التحالف، الذي من شأنه أن يعزّز فرَص بقاء الحريري في السلطة أقلّه حتى نهاية ولاية عون.
أمّا الهدف الثاني للحريري، فهو تعزيز موقعِه السياسي والشعبي داخل بيئته وعلى المستوى الوطني من خلال تفعيل أدائه انطلاقاً من موقعه كرئيسٍ للحكومة، وذلك بغية ضمان خوضِ معاركِه الانتخابية في كلّ المناطق والدوائر في انتخابات 2018 بما يمكّنه من الفوز بكتلة نيابية وازنة في مجلس النواب المقبل، ترجّح فوزَه برئاسة الحكومة التي ستنبثق من تلك الانتخابات.
والحريري، على ما يؤكّد السياسيون أنفسُهم، حريص على التعاون مع مختلف شركائه في السلطة من دون إهمال تعزيز علاقاته الاقليمية والدولية والوقوف على مقربةٍ ممّا يُحاك من تسويات للأزمات التي تعيشها المنطقة، في اعتبار أنّه سيكون لهذه التسويات تداعياتها وانعكاساتها المباشرة وغير المباشرة على لبنان.
وفي اعتقاد هؤلاء السياسيين انّ غالبية القادة السياسيين، بدأوا يلتزمون موقف المراقب للتطوّرات التي تشهدها المنطقة وتأخذ طابعَ التأسيس للتسويات المطلوبة للأزمات الإقليمية، بحيث إنّ أياً من هؤلاء لن يندفع في أيّ مواقف يمكن ان ترتدّ سلباً على مستقبله السياسي، خصوصاً أنّ تلك التسويات لا بدّ أن تكون لها ترجمة عمليةٌ ما على مستوى مستقبل العلاقات بين مختلف القوى السياسية الداخلية المتمحورة أصلاً حول القوى الاقليمية والدولية المتنازعة والتي ستتّفق عاجلاً أم آجلاً في ما بينها على هذه التسويات.
فتيار «المستقبل «وحلفاؤه سيتمسّكون بما يمكن أن يلتزمه حلفاؤهم من موقف على المستوى الإقليمي، والأمر نفسه سينطبق على الفريق الآخر.
ولذلك فإنّ جميع الأفرقاء سيندفعون راهناً في اتجاه دعمِ الجيش في معركة تحرير جرود رأس بعلبك والقاع من مسلّحي تنظيم «داعش»، لأنها ستكون الحلقة التي سيقفَل فيها ملف الإرهاب الذي يتهدّد لبنان عبر حدوده مع سوريا، ليتركّز الاهتمام بعدها على تعزيز الأمن داخلياً بتصفية ما تبَقّى من خلايا أو شبكات إرهابية نائمة أو «صاحية» ربّما تكون من مخَلّفات «داعش» و«النصرة» وأخواتهما، بحيث إنّ مخيمات النزوح وكلّ الأماكن التي يقطنها نازحون سوريون ستكون تحت المراقبة الدؤوبة، لأنّ تلك المنظمات تعتبر مخيمات النزوح بيئة حاضنة لها.
على أنّ بين القوى مَن بدأ يستعدّ لمرحلة إعادة إعمار سوريا، في الوقت الذي بدأ اقتصاديون وشركات كبرى دولية وإقليمية ومحلية يعملون لحجز أدوارهم واستثماراتهم في تلك العملية، خصوصاً أنّ ما يَرشح من مصادر مختلفة، يفيد أنّ هذا الملفّ الإعماري سيُفتح عملياً مطلع السنة المقبلة في ظلّ توقّعات بأن تسلك الأزمة السورية بداية النهاية أواخر السنة الجارية.
وتحت جنح الاهتمام بتعزيز الاستقرار الأمني داخلياً، والذي كان ولا يزال يَحظى بتغطية إقليمية ودولية كبيرة تُعبّر عنها مواقف بعض عواصم القرار في المنطقة والعالم، ستذهب جميع القوى السياسية التي ستخوض الانتخابات النيابية في أيار المقبل، علماً أنّ أقطاباً نيابية ومرجعيات سياسية، فضلاً عن نوّاب في كتل أساسية بدأوا يُروُجون لفكرة تقصير الولاية النيابية إذا أمكنَ، وإجراء الانتخابات أواخرَ السنة الجارية لأنّ المجلس النيابي الحالي الممدّد له بات «جُثّة» في رأيِهم، ولم تعُد له الفعالية والصدقية المطلوبة، فشتّان بين ما كان عليه الواقع عام 2009 حيث أجريَت آخر انتخابات وبين ما هو عليه الواقع اليوم بعد انقضاء أكثر من سبعة أعوام ونيّف شهدَت فيها أوضاع لبنان والعالم العربي والعالم تطوّرات دراماتيكية ستكون لها تداعياتها على المستقبل لعشرات السنين.