لعلّ زيارة دونالد ترامب للسعودية في أيار الماضي غطّت عليها المواقف والأرقام أكثر مما التفت إليه المراقبون بشأن شياطين التفاصيل في العقود التي وُقِّعَت آنذاك بين واشنطن والرياض، وقيل إن قيمتها وصلت إلى حدود 480 مليار دولار. تضمنت تلك الاتفاقات عدداً من المجالات، كقطاع الطاقة والتسلح والعقارات، لكن كان لافتاً إعلان المملكة فتح الباب أمام الشركات الأميركية لتعمل بموجب تراخيص خالية من القيود المعتادة للشركات الأجنبية
شُغل سعوديون كثيرون في التدقيق في أسماء الشركات التي وردت في بيان توقيع اتفاقية تعاون بين «الهيئة العامة للاستثمار السعودية» و«الغرفة التجارية الأميركية» بتاريخ 20 أيار الماضي، خلال أعمال «منتدى الرؤساء التنفيذيين السعودي ــ الأميركي» في عاصمة المملكة الرياض، فقد تنوعت طبيعة الشركات الأميركية (عددها 23) التي حصلت على رخص استثمارية بنسبة 100% في السعودية وفق البيان، وأخذ المغردون السعوديون يتقصّون مجال اختصاص كل منها.
شركة «ماكينزي» كانت إحدى هذه الشركات المرخّصة، علماً بأنها تعمل في السعودية منذ سنوات، ويرأس فرعها اليمني غسان الكبسي، وهو متخرّج في جامعة هارفرد، كذلك فإنه من صاغ مشروع ولي العهد محمد بن سلمان المسمى «رؤية 2030». وكانت «ماكينزي»، التي تقدّم حلولاً في مجال استشارات الأعمال للشركات والحكومات على حد سواء، قد أصدرت في كانون الأول 2015 تقريراً تحدثت فيه عن الضرورة التي تحتّم على السعودية التخلي عن الاعتماد على النفط والتنويع في مصادر الدخل عبر الاستثمار. ومن يطالع «رؤية ابن سلمان» التي أعلنها في نيسان 2016، يكتشف أنها نسخة عن تقرير «ماكينزي» الصادر قبل أشهر، إذ انتشرت في أوساط السعوديين عقب إعلان الرؤية قصة صياغة الشركة لها (مع أن ابن سلمان يدّعي أنها من بنات أفكاره).
لكن، يظهر في تقرير «ماكينزي» و«رؤية ابن سلمان» على حد سواء، وفي أكثر من موضع، فكرة استجلاب الشركات الأجنبية للاستثمار في السعودية. وعلى ما يبدو، ذهبت حصة الأسد من التراخيص الممنوحة للشركات الأجنبية حتى الآن إلى الأميركيين. وبالتزامن مع عملية ترخيص الشركات الأميركية، أعلنت وزارة التجارة والاستثمار السعودية أن من شروط منح التراخيص للشركات برأسمال أجنبي بنسبة 100% أن تلتزم هذه الشركات توظيف ما نسبته 30% من طاقمها من السعوديين، وأن تقتصر المناصب القيادية فيها على السعوديين في السنوات الخمس الأولى لبدء عملها. لكن الوزارة لم تُحدّد أي ضمانات لالتزام هذه الشركات الشروط المفروضة، ولم تُذكر العقوبة في حال المخالفة، مع الأخذ بالاعتبار أن الاستثناءات دوماً كانت حاضرة، خاصة عندما يتعلق الأمر بتسهيل عمل الأميركيين.
تاريخ من إنقاذ الشركات الأميركية
اعتمد حكّام السعودية منذ عام 1970 حتى 1995 خمس خطط اقتصادية خمسية صمّمها لهم الأميركيون، وكانت كل هذه الخطط ترفع شعاراً رنّاناً هو جعل السعودية «دولة صناعية» لا تعتمد على النفط مصدراً أساسياً للدخل. طبعاً، فشلت كلها ولم تستطع الرياض أن تقلع عن إدمانها للنفط أو استثمار عائداته في مجالات أخرى تُنوّع مصادر الدخل، بل انتهجت سياسة ريعية أوصلتها مع مرور السنين إلى عجز في ميزانياتها مع هبوط أسعار النفط عالمياً، والشاهد ما يحدث منذ أواخر 2014.
وعام 1974 شرع الأميركيون في وضع الخطة الخمسية الثانية التي نُفِّذَت بين 1975 و1980، إذ وعدت واشنطن بنقل المملكة الصحراوية إلى دولة صناعية حديثة. ورصد لذلك مبلغ 142 مليار دولار، ثم لاحقاً مع البدء في تنفيذ الخطة ارتفعت التكلفة إلى 180 ملياراً. يصف الكاتب الأميركي ستيفن إمرسون تلك الخطة بالقول، إن «آلاف الصفحات التي طُبعت عليها وزنت نحو 200 رطل، وكانت ميزانيتها تُقدّر بنحو ثلاثة أضعاف ونصف ضعف حجم ميزانية برنامج أبولو الأميركي الذي أطلق ستة صواريخ إلى الفضاء وأنجز ستة هبوطات على سطح القمر».
آنذاك، جرى تلزيم شركة SRI International الأميركية، التي كانت تقدم الاستشارات إلى وزارة الدفاع وشركات متعددة الجنسية، لوضع الخطة والإشراف على التعاقد مع الشركات المنفّذة لها، فيما ضمّ مجلس إدارة الشركة آنذاك شخصيات مثيرة للاهتمام، منهم ألدن كلوسن، رئيس «بنك أوف أميركا» الذي شغل لاحقاً منصب رئيس البنك الدولي، وألبرت كيسي رئيس شركة «أميركان إيرلاينز»، وجورج شولتز رئيس شركة «بيكتل» الذي أصبح لاحقاً وزيراً للخارجية الأميركية، وآخرين. وSRI كانت قد وضعت الخطة الخمسية الأولى عام 1968 التي كانت ميزانيتها 9.2 مليارات دولار فقط، لكن مع ضخامة الخطة الثانية، سخّرت الشركة 50 موظّفاً متفرغاً لمتابعة كتابتها، فيما استجلب للتنفيذ 500 ألف عامل وفنّي ومدير من مختلف دول العالم.
وفي آب 1975، وقّعت الشركة نفسها العقد مع الحكومة السعودية الذي دفعت بموجبه الرياض 6.4 مليارات دولار لها، إلى حدّ أن ممثّل الشركة في الشرق الأوسط ويلسون هاروود قال آنذاك، إنه «لا قيود على التمويل... الميزانية مفتوحة». ثم بحلول 1977 ارتفع حجم عقود شركة SRI في منطقتي الشرق الأوسط وجنوب شرق آسيا بنسبة 45% مع تعاقدها أيضاً عام 1976 مع كل من الكويت والإمارات العربية المتحدة لمساعدتهما في عملية صرف أموالهما.
بعد ذلك، أدى عقد SRI مع الرياض إلى تكاثر العقود الاستشارية من الدرجة الثانية مع شركات أميركية متعددة الجنسية، ففي آب 1974 جرى تلزيم شركة الإنشاءات والهندسة المدنية «بيكتل» لتشييد أكبر مطار سعودي في الرياض (سمي لاحقاً على اسم الملك خالد بعد تسلّمه الحكم عام 1975) بموجب عقد بقيمة 3.4 مليارات دولار، علماً بأن هذا المطار لم يكن العقد الأول لـ«بيكتل» في المملكة، إذ نفذت الشركة قبله مشروع مد أنبوب «تابلاين» عام 1947، الذي نقل النفط السعودي من المنطقة الشرقية للمملكة إلى ميناء صيدا جنوب لبنان.
ووفق باحثين أميركيين، حوّلت العلاقة القوية بين مديري «بيكتل» ووكالة الاستخبارات المركزية والخارجية الأميركية في الخمسينيات والستينيات الشركة إلى ذراع قوية للحكومة الأميركية في الشرق الأوسط. إذ إن اثنين من رؤساء CIA، هما جون ماكون وريتشارد هلمز، بالإضافة إلى باركر هارت (السفير الأميركي الأسبق لدى الرياض)، انضموا إلى «بيكتل» بعد تقاعدهم من الخدمة الرسمية. وعام 1975 اختيرت «بيكتل» مجدداً لإنشاء مجمّع البتروكيماويات الضخم في مدينة الجبيل (الذي يعرف اليوم بمدينة الجبيل الصناعية)، وقد حصلت الشركة على عقد بقيمة 9 مليارات دولار لتنفيذ المشروع.
ابن سلمان يعيد الكرّة
من المعلوم أن الرئيس الأميركي، دونالد ترامب، وعد في حملته الانتخابية بزيادة حجم الوظائف وإعادة رأس المال الأميركي أو أرباحه إلى داخل الولايات المتحدة. وبعد فوزه، لا يكاد يمرّ أسبوع إلا ويغرّد على حسابه في موقع «تويتر» أو يصرّح في مؤتمر عن حجم الوظائف التي وفّرها وكيف ارتفع مؤشر التوظيف. ولعل أوقح تصريح في هذا السياق خرج من فمه، كان خلال زيارته للرياض في أيار الماضي، حين وقف وإلى يساره ولي العهد المعزول محمد بن نايف، ليقول: «أشكر الحكومة السعودية على استثماراتها الكبيرة... وظائف وظائف وظائف».
إذاً، لن تكون الشركات الـ23 التي أُعلن الترخيص لها للعمل في السعودية آخر ما سيُعلن بشأنه، فهناك قطاعات أخرى في «رؤية محمد بن سلمان» تحتاج إلى المزيد من الشركات الأجنبية، ولا سيما الأميركية. وقبل نحو عام ونصف عام، أصدر ابن سلمان عدداً من القرارات التي يمكن فهم المغزى من ورائها بعد زيارة ترامب للسعودية، منها على سبيل المثال الإيعاز بهدم خمس قرى محيطة بمكة بذريعة البناء من دون ترخيص، فالأرض في تلك المنطقة سيكون لها مستقبل كبير في المرحلة المقبلة مع انطلاق مشاريع الإنشاءات الضخمة التي يدرجها ولي العهد الحالي ضمن خطته لتوسيع المنطقة المحيطة بالحرم المكي، وذلك لزيادة القدرة الاستيعابية للحجاج والمعتمرين، وفي النتيجة زيادة العائدات إلى خزينته، وستحصل الشركات الأميركية على نصيب كبير من أعمال الإنشاءات هناك.
إلى الشرق، حيث آبار النفط، القطاع المهم بالنسبة إلى ابن سلمان في رؤيته، من غير المستبعد أن تكون المنطقة المحيطة بميناء رأس تنورة (الميناء النفطي الأكبر في المنطقة) في المنطقة الشرقية محط تركيز ولي العهد في هذه المرحلة مع اقتراب طرح أسهم شركة «أرامكو» للاكتتاب في العام المقبل.
بمقارنة بسيطة يظهر
أن «رؤية ابن سلمان» نسخة
عن تقرير شركة أميركية
وربما كان يندرج أحد الأهداف الأساسية للعملية العسكرية في العوامية ومحيطها، في إطار تهيئة المنطقة للشركات الأجنبية (الأميركية منها على وجه الخصوص) لتأتي بمنشآتها ومصانعها وتحل مكان سكان المنطقة وتشرف على استثماراتها في «أرامكو».
ولا يغيب عن المتابعين أن مسلسل التصفية الذي انتهجه ابن سلمان مع شركات الإنشاءات العقارية السعودية الكبيرة (مجموعة بن لادن وسعودي أوجيه) خلال العامين الماضيين، من الجائز النظر إليها الآن كتوطئة لعملية تلزيم شركات أميركية ستأتي لتأخذ مكانها في سوق التلزيم. أما في القطاع الصحي، فتبرز عملية محاصرة المستشفيات الخاصة بمنع صرف مستحقاتها من خزينة الدولة، ما يسبب أزمة رواتب وديون على مالكيها، الأمر الذي يضطرهم إلى بيعها للدولة، مع الأخذ بالاعتبار أن المنشآت الصحية التي تملكها الدولة السعودية سيكون مصيرها الخصخصة ضمن رؤية ابن سلمان، الأمر الذي يعني أن شركات أجنبية (الأميركية على رأسها) ستأتي لتستثمر في هذا القطاع الحيوي.
كل هذه الخطوات، التي تسير على قدم وساق ضمن ما يرد في «رؤية 2030»، تصبّ في توجه واضح مفاده أن الرياض اختارت أن تعيد الكرّة مع الأميركيين عبر فتح المملكة على مصراعيها أمام الشركات الأميركية لتستفيد وتفيد اقتصاد الولايات المتحدة. لكن ما هو المقابل، إضافة إلى جواز مرور ابن سلمان إلى العرش؟ يبدو أنه مع استمرار مسلسل الهزائم السعودية واستشعار الرياض الخطر يقترب شيئاً فشيئاً، فإن المبدأ المتبع هو ما كان ترامب قد عبّر عنه (بصراحته المعهودة) في أكثر من مناسبة: عليكم أن تدفعوا لنستمر في حمايتكم!
«مملكة الخير» تنقذ شركات من الإفلاس!
ضمن التعاقد مع شركات أميركية، أنقذت السعودية عدداً من الشركات التي كانت على وشك الإفلاس بسبب أزمة الركود التي ضربت الولايات المتحدة منتصف السبعينيات، إذ حصلت شركة «إيليوت» في ولاية بنسلفانيا على عقد لتزويد السعوديين بـ52 مضخة غاز بسعة 100 طن كانت الرياض بحاجة إليها ضمن «برنامج تجميع الغاز». وبما أن الشركة لم تكن تملك الطاقة البشرية لتنفيذ المطلوب، فإنها فتحت باب التوظيف بزيادة بنسبة 40% واعتمدت على شركات صغيرة في الولاية (كانت بدورها مهددة بإشهار إفلاسها) لصناعة المضخات، الأمر الذي أنعش حركة التوظيف وضخ عشرات ملايين الدولارات في خزينة الشركة.
شركة أميركية أخرى كانت على شفير الإفلاس هي «جاي إي جونز» في شارلوت ــ كارولاينا، أنقذها السعوديون بعقد قيمته 385 مليون دولار مقابل تزويد شركات الإنشاء في المملكة بالإسمنت والحديد. وفي مقابلة صحافية عام 1977، قال نائب رئيس الشركة جورج تيرنر: «لقد استوردنا من 37 ولاية أميركية إسمنتاً ومواد بناء بقيمة 100 مليون دولار... كل ما هو ضروري لتشييد المباني أتينا به من الولايات المتحدة حصراً».