كان من اللافت لجميع المراقبين والمحللين السياسيين والعسكريين العرض العسكري الضخم وغير المسبوق الذي اقيم في الصين في الذكرى التسعين لتأسيس الجيش الشعبي الصيني.
فالعرض عكس مستوى تنامي وصعود القوة العسكرية الصينية على نحو ابهر العالم، خصوصا لناحية الأسلحة الحديثة التي عرضت، وشملت نوعيات متطورة وتقنيات عسكرية متقدمة إلى جانب الأسلحة النووية، وكذلك التطور الذي حصل على صعيد الأسطول البحري وامتلاك الصين أول حاملة للطائرات.
وكمؤشر على مدى صعود القوة العسكرية الصينية أطلق المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية IISS، في 14 فبراير 2017، كتابه السنوي الجديد (التوازن العسكري 2017) حول التقييم السنوي للقدرات العسكرية العالمية واقتصاديات الدفاع. الكتاب ضخم جداً ويحتوي على 10 فصول بالإضافة إلى المقدمة والخاتمة. كل منطقة في العالم خصص لها فصل خاص، فصل خاص عن الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، وفصل خاص عن آسيا، وفصل خاص عن أوروبا وحلف شمال الأطلسي، وروسيا، وأميركا... الخ. بالإضافة إلى عدد كبير من البيانات الاحصائية والغرافيك والجداول.
واللافت للنظر أن الكتاب هذا العام، في فصل آسيا، ركز كثيراً على قدرات الصين العسكرية. ووفقاً للكتاب فإن القدرات الصينية العسكرية تساوت مع الغرب، وأن الصين تواصل التسلح بسرعة، وأنها سبقت 4 دول بينها السعودية، وأن الأسلحة الصينية تهدد الهيمنة الغربية.
تتصدر الصين، التي تساهم بأكثر من ثلث نفقات الدفاع في القارة الآسيوية، الدول الأخرى عبر ميزانية دفاع بلغت 145 مليار دولار في 2016.
وعلى الرغم من أن هذا الرقم عالمياً ما زال أقل بكثير من النفقات الأميركية (604.5 مليارات) لكنه حسب التقرير يفوق ميزانيات روسيا (الثالثة في العالم 58.9 مليار) والسعودية (56.9) والمملكة المتحدة (52.5) وفرنسا (47.2).
ويبدو من اللافت، في القطاع الجوي، أن الصين يمكنها الوصول إلى شبه التكافؤ مع الغرب. أيضا، بكين بدأت الآن بتقديم عروضها التصديرية لبعض النظم العسكرية الحديثة وبدأت تبيع الأسلحة في الخارج. على أن امتلاك النظم المتقدمة بكثرة من قبل الدول المنافسة للدول الغربية يزيد من مخاطر تعقيدات الخيارات العسكرية للدول الغربية وفق ما جاء في المعهد الدولي.
ووفق المؤسسات المتخصصة فان القوة الصينية باتت ثالث أكبر قوة في العالم، بعد الولايات المتحدة وروسيا.
من الواضح أن هذا الصعود في قوة الصين العسكرية إنما يترافق ويواكب الصعود الصاروخي لقوة الصين الاقتصادية التي يجمع المتخصصون بأنها باتت تحتل المرتبة الثانية عالميا وهي تسير قدوما نحو التربع على عرش الاقتصاد العالمي بدلا من أميركا التي تتراجع قوتها نتيجة انحسار هيمنتها وانخفاض حصتها من الناتج العالم على نحو كبير. على الرغم من أن العرض العسكري للجيش الصيني، الذي أفصح عن الصعود المضطرد لقوته، جاء في توقيته عشية انعقاد المؤتمر التاسع عشر للحزب الشيوعي الصيني، ووسط تأكيد الرئيس جين بينغ شين من أن الجيش الصيني هو لحماية السلام العالمي.
إلاّ أنه وجه رسائل قوية للخارج، ولاسيما للولايات المتحدة مفادها، أن الصين تملك القدرة والتصميم على الدفاع عن سيادتها وأمنها القومي ومصالحها، ولن تسمح لأميركا بالاستمرار في التدخل في شؤونها الداخلية أو في شؤون المنطقة لاسيما في النزاع حول الجزر في بحر الصيني الجنوبي بين الصين والدول المتشاطئة معها، حيث تؤدي التدخلات العسكرية الأميركية السافرة في هذا النزاع وتحريض واشنطن لدول المنطقة على رفض الحوار مع الصين بشأن السيادة على الجزر.وكذلك عزم الصين على مواجهة التهديدات الناجمة، عن قرار واشنطن نشر الدرع الصاروخي في كوريا الجنوبية، وكذلك مواجهة تصاعد خطر الإرهاب المدعوم أميركيا في دول آسيا الوسطى المحاذية للصين.
لكن هذا العرض للقوة العسكرية الصينية، لا يعني أن بكين وواشنطن تتجهان إلى الحرب، بقدر ما أن ذلك يزيد من الصعوبات أمام الخيارات الحربية للولايات المتحدة. أي بمثابة ردع للعدوانية الأميركية، ووضع حد لانتهاكاتها وتدخلاتها المستمرة في شؤون الدول الداخلية. وهذا الردع يعزز من الاقتناع بصعوبة نشوب حرب بين الدولتين، كما أن التشابك الاقتصادي بين الصين وأميركا يجعل العلاقات محكومة بالحوار والاتفاق على الأمور الاقتصادية والتجارية الحيوية بالنسبة لهما، وتنظيم الخلافات حول القضايا المتنازع عليها.
وهذا الاستنتاج مبني على أساس قوي وهو أن حجم الميزان التجاري بين البلدين هو الأكبر في العالم. فهو يتجاوز النصف تريليون دولار، في حين أن الصين أكبر مكتتب بسندات الدين الأميركية، ولا تستطيع أميركا الاستغناء عن الحاجة إلى اكتتاب الصين المستمر بهذه السندات لتغطية العجز في الموازنة الأميركية البالغ عتبة الـ تريليون دولار، وتسديد فوائد خدمة الدين العام الذي بلغ نحو 20 تريليون دولار، حسب ما جاء في كتاب رؤية استراتيجية لمستشار الأمن القومي الأميركي السابق بريجنسكي. فلا توجد دولة في العالم تملك فائض ضخم من احتياطي العملات الصعبة يضاهي الصين. وهذا ما يجعل من أميركا دولة تابعة للصين، وهي علقت في فخ الدين الذي تنصبه للكثير من دول العالم الثالث، عبر صندوق النقد الدولي، بهدف ابتزازها والنيل من استقلالها وفرض الهيمنة الاقتصادية والسياسية والأمنية عليها وتحويلها إلى بلدان تابعة تدور في فلك السياسة الأميركية.
انطلاقا من كل ذلك يمكن القول إن صعود القوة العسكرية الصينية بالتوازي مع صعود القوة الاقتصادية، والمتزامن مع الصعود في قوة روسيا، يعزز الاتجاه نحو تكريس الواقع الدولي الجديد القائم على التعددية القطبية وإعادة بناء نظام دولي يقوم على التوازن والشراكة بدلاً عن الهيمنة والتسلط.