خلال خطابه لمناسبة ذكرى الانتصار الذي تحقّق في حرب تموز 2006، كما في خطاباته الأخيرة، لم يأتِ الأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله على ذكر رئيس الحكومة ورئيس "تيار المستقبل" سعد الحريري بالاسم،ولو لمرّةٍ واحدةٍ، أو حتى من باب توصيف الوقائع ليس إلا.
قد لا يكون هذا الأمر بجديدٍ، إذ إنّ السيد نصرالله لطالما اعتمد سياسة "التجاهل" مع الحريري، تفاديًا لتعميق الخلاف وزيادة "التشنّج" الذي لا بدّ أن ينعكس على الشارع سلبًا، إلا أنّ مؤشرات عديدة تدفع إلى الاعتقاد بأنّ الأمر هذه المرّة مختلف، بل إنّ الحزب راضٍ ضمنيًا عن أداء "الشيخ سعد" وسياسته الحاليّة، رغم الكثير من التحفّظات الكبرى...
مؤشرات مشجّعة
لا شكّ أنّ "التباعد" بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" كبير جدًا على الكثير من القضايا، ولا سيما الاستراتيجية منها، وتلك المرتبطة بالصراع الإقليمي الدائر، والحرب السورية جزءٌ لا يتجزّأ منه بطبيعة الحال. ولا شكّ أيضًا أنّ هذا التباعد، الآخذ في الاتّساع، تجلّى بوضوحٍ شديدٍ لا لبس فيه خلال الأسابيع الماضية من معركة جرود عرسال التي غرّد فيها "المستقبليّون" خارج السرب العام بمعارضتهم لقتال "حزب الله" فيها، إلى "المعركة المفتعلة" في مجلس الوزراء خلال الأسبوع الماضي على صعيد التنسيق مع الحكومة السورية وزيارات بعض الوزراء إلى دمشق.
ولكن، ورغم أهمية هذه القضايا وحساسيّتها الشديدة، لا يبدو مبالَغًا به إطلاقاً القول بأنّ العلاقة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل" ليست أبدًا في أسوأ أحوالها، خصوصًا أنّ مثل هذا الكلام يستند إلى مجموعةٍ من المؤشرات الإيجابيّة التي يمكن رصدها بالتوازي مع رصد نقاط التباعد والاختلاف بين الجانبين. ولعلّ الخطاب الأخير للسيد نصرالله يندرج ضمن هذه المؤشرات لا العكس، إذ إنّ تعمّد الرجل عدم ذكر الحريري يُقرأ بإيجابية لا بسلبية، خصوصًا أنّ الأمين العام لـ"حزب الله" توقّف في الخطاب نفسه عند زيارة الوفد الوزاري اللبناني إلى واشنطن، والملابسات التي أحاطت بالزيارة خصوصًا لجهة تصريحات ترامب الذي وضع "حزب الله" في خانة "المنظمات الإرهابية" التي تشكّل الحكومة اللبنانية رأس حربةٍ في مواجهتها، على حدّ قوله. وهنا، انتقد السيد نصرالله "جهل" الرئيس الأميركي، من دون أن يتبنّى، لا تلميحًا ولا مباشرةً، كلّ ما قيل عن امتعاضٍ من أداء الوفد اللبناني الذي كان الحريري يرأسه.
وفي السياق عينه، يمكن إدراج زيارة رئيس الحكومة إلى الكويت في خانة المؤشرات الإيجابية، خصوصًا أنّها أتت بعد "البلبلة" التي أحدثتها ما اصطلح على تسميتها بقضية "خلية العبدلي" التي اتُهِم "حزب الله" بالتورّط فيها، وبدت مكمّلة بشكلٍ أو بآخر لما سبق أن أكده الأمين العام لـ"حزب الله" في خطابه ما قبل الأخير لجهة التمسّك بالعلاقات الممتازة مع دولة الكويت. وإذا كان الحريري قد حاول توظيف علاقاته الدولية والاستفادة منها لإنهاء ذيول هذه القضيّة بالتي هي أحسن، فقد سجّل له الحزب أيضًا إيجابيّة في التصريحات التي خرج بها في قلب الكويت، حيث أكّد التعاون اللبناني التام لمعالجة هذه القضيّة، من دون أن يخفي وجود اتصالاتٍ مع "حزب الله" بهذا الشأن.
ويبقى المؤشّر الأهمّ من كلّ ما سبق أنّ رئيس الحكومة استطاع أن يحوّل التجاذب الذي شهده مجلس الوزراء في جلسته الأخيرة حول قضيّة الزيارات إلى سوريا من "نقمة" عليه من جانب "حزب الله" إلى "نعمة"، إن جاز التعبير، لدرجة أنّه حصد "الإشادة" من وزيري الحزب داخل الحكومة محمد فنيش وحسين الحاج حسن. وقد أثنى الوزيران على سحب الحريري للملف، باعتباره نقطة خلافيّة، علمًا أنّ فنيش نقل عن الحريري ما يتخطّى ذلك وصولاً لحدّ تشبيه الزيارات إلى سوريا بالزيارة التي قام بها هو إلى الولايات المتحدة الأميركية، والتي لا ريب أنّ "حزب الله" مثلاً لم يكن من المحبّذين لها.
الحذر واجب...
إزاء المؤشّرات الإيجابية التي يمكن رصدها في هذه الفترة على صعيد العلاقة بين "حزب الله" و"تيار المستقبل"، قد يتحمّس البعض ويذهب بعيدًا في اندفاعته، ليطرح تساؤلاتٍ عن موعد "لقاء القمّة" بين الحريري ونصرالله مثلاً، أو ليسأل عن إمكانية صياغة تفاهم شبيه بذلك الموقّع مثلاً بين "التيار الوطني الحر" و"القوات اللبنانية"، والذي قفز على الكثير من النقاط الخلافيّة الاستراتيجيّة، والتي لا تزال على حالها.
إلا أنّ هذه "الاندفاعة" لا تجد موطئ قدم لها على أرض الواقع، حيث يبقى الحذر واجبًا في سياسة "حزب الله" إزاء "المستقبل"، فهو إن قابل الإيجابية بإيجابية موازية، إلا أنّه يحرص على عدم الذهاب بعيدًا في تفسير هذه "الإيجابيّة"، خصوصًا أنّ الحزب مقتنع بأنّ الحريري لا يفعل ما يفعله حبًا بـ"حزب الله" أو غيرةً عليه، بقدر ما يفعله حفاظاً على مصلحته الشخصيّة، خشية أن يعيد التاريخ نفسه، عبر "انقلابٍ" يطيح به من رئاسة الحكومة، في وقتٍ هو بأمسّ الحاجة إلى البقاء في السلطة، للتعويض عمّا فات والخروج من الأزمات المتفرّعة التي يواجهها، خصوصًا أنّه على أبواب انتخابات نيابيةٍ مفصليّة العام المقبل، لم يكمل جهوزيّته لها حتى الآن، وهو ما تؤكده المحاولات التي يبذلها لتطيير الانتخابات الفرعية بذريعةٍ أو بأخرى.
ولعلّ مواقف بعض المحيطين بالحريري تعزّز مثل هذا الحذر وهذه الخشية، ولا تبشّر بأيّ تغييرٍ "جوهري" يمكن البناء عليه في هذه المرحلة، خصوصًا في ظلّ وجود وجهة نظر تحتمل الكثير من الصواب بأنّ ما لا يستطيع الحريري أن يقوله جهاراً يتولّى هؤلاء قوله، في مقابل وجهة نظر أخرى تضع مثل هذه المواقف في سياق "المزايدات الشعبوية" التي يفرضها بشكلٍ خاص الصراع مع وزير العدل السابق أشرف ريفي، الذي يسعي للعب على الوتر الحسّاس لبيئة "المستقبل" الحاضنة على الساحة السنية، والتي تمّت تعبئتها بما يكفي خلال السنوات القليلة الماضية.
وإذا كان النائب عقاب صقر يتصدّر لائحة هؤلاء المقرّبين من الحريري، هو الذي أعاد "إشعال" الكثير من "الجبهات" في مؤتمره الصحافي الأخير، والذي طرح أكثر من علامة استفهام، فإنّ اللائحة لا تقتصر عليه، بل تشمل أسماء أخرى، من رئيس "كتلة المستقبل" فؤاد السنيورة، رغم الحديث الدائم عن "صراع أجنحة" بينه وبين الحريري، ترجم بغيابه "طوعًا أو قسراً" عن الساحة في الكثير من الأحيان، وصولاً حتى إلى وزير الداخلية نهاد المشنوق، الذي لطالما اتُهِم بالإفراط في التقارب مع "حزب الله"، بل ذهب البعض لحدّ تصنيفه ممثلاً للحزب داخل الكتلة "الزرقاء".
المصالح تعلو..
"المصالح تعلو ولا يُعلى عليها". قد تسري هذه القاعدة على العلاقة بين "حزب الله" و"المستقبل"، كما تسري أصلاً على كلّ العلاقات المتشابكة بين القوى السياسية اللبنانية، التي قد تختلف عقوداً، وتلتقي فجأة لسببٍ قد لا يتخطّى "النكايات" في بعض الأحيان.
هكذا، يمكن القول أنّ "الهدنة" على خطّ "تيار المستقبل" و"حزب الله" نابعة حصرًا من المصلحة منها، لا أكثر ولا أقلّ، خصوصًا أنّ الحريري لا يبدو مستعدًا اليوم لأيّ "مغامرة" من شأنها أن تهدّد رئاسته للحكومة، وهو يدرك أنّ "حزب الله" الذي لم يمانع تسميته رئيسًا للحكومة، قادرٌ على قلب الطاولة عليه، إن أراد، وهنا بيت القصيد...