بعد سنوات طويلة من المُماطلة والتأجيل والتسويف، أقرّ مجلس النوّاب اللبناني في 18 تمّوز الماضي "سلسلة الرتب والرواتب"، لكن بالتزامن مع فرض مجموعة من الضرائب الجديدة. وإذا كان من المُنصف رفع رواتب العاملين في القطاع العسكري بالشكل الذي حصل، ومن المُنصف رفع رواتب العاملين في القطاع العام أيضًا، فإنّ ما ليس مَقبولاً ولا عادلاً هو أن تكون الزيادات المالية لجزء من الشعب اللبناني جاءت على حساب جزء آخر من الشعب اللبناني. ومن غير المَقبول ولا الجيّد زيادة الرواتب لجزء من الشعب، من دون أي خطّة إقتصاديّة أو تنمويّة، ومن دون أي رؤية إستثماريّة أو مداخيل غير فرض سلسلة من الضرائب الجديدة والمُرهقة، لأنّ هذا الأمر لا يقود سوى إلى التضخّم، وإلى هوّة في القدرات الشرائية بين المُوظّفين والعاملين اللبنانيّين، وإلى بلبلة إقتصاديّة قد يكون من المَعروف كيف ستبدأ لكن لن يكون بوسع أي جهة معرفة كيف ستنتهي. وهذا الأمر ليس وجهة نظر، بل هو مَبني على دراسات لخبراء إقتصاديّين، وعلى تحاليل إقتصاديّة وماليّة دقيقة.
إشارة إلى أنّ الثغرات التي تشوب سلسلة الرتب والرواتب والتي كانت مدار بحث مطوّل في قصر بعبدا أمس الأوّل، والتي هي أيضًا محلّ نقاش داخلي مُستمرّ، لا تقتصر على القُضاة، وأساتذة الجامعة اللبنانيّة، والعسكريّين المُتقاعدين، وغيرهم ممّن شملتهم الزيادات لكن بشكل غير مُنصف مُقارنة بموظّفين آخرين في القطاع العام، حيث أنّ إرتدادات "السلسلة" السلبيّة تطال موظّفي القطاع الخاص ونقابات المهن الحرة وكلّ العاملين اللبنانيّين من خارج الملاك والقطاعات الرسميّة، ولوّ بشكل غير مُباشر. وفي هذا السياق، يُمكن تعداد ما يلي:
أوّلاً: إنّ إنصاف العاملين في قطاع التعليم الرسمي، وربطه بقرار يُوجب إنصاف العاملين في قطاع التعليم الخاص، يقود حُكمًا إلى زيادة الأقساط المدرسيّة، وهو ما سيرتدّ سلبًا على عدد كبير من المُوظّفين والعاملين اللبنانيّين الذين لم يستفيدوا من "السلسلة" لكنّهم سيُضطرّون لدفع أقساط مدرسيّة بزيادات لا تقلّ عن 25 % مُقارنة بأقساط العام الماضي!.
ثانيًا: إنّ الشروع في تطبيق "السلسلة"، حتى لوّ جرى تعديل بعض بنودها كما يتردّد، سيُحدث فوارق كبيرة في القُدرات الشرائيّة بين موظّفي القطاعين العام والخاص، وهو ما لا يُمكن أن يستمرّ لفترة طويلة، حيث سيبدأ موظّفو القطاع الخاص بالمُطالبة بزيادات على رواتبهم، لمُعادلة تلك التي يتقاضاها موظّفو القطاع الرسمي. وعلى خطّ مُواز، لن يعود من المُمكن الإبقاء على الحد الأدنى للأجور بحُدود 675,000 ليرة لبنانيّة، كونه سيُصبح أدنى بين مرّتين إلى ثلاث مرّات من أدنى راتب في القطاع الرسمي! وهذا الأمر سيؤدّي إلى رفع الحد الأدنى للأجور، ولوّ بعد حين. وما سبق سيقود حُكمًا إلى إرتفاع كبير لكل أسعار المُنتجات والسلع، لتغطية نفقات الزيادات والرواتب الجديدة التي لا بُد وأن تبدأ بالظهور تباعًا بعد أشهر من البدء بتطبيق "السلسلة".
ثالثًا: إنّ التضخم المالي سيكون حتميًا ونتيجة طبيعيّة للزيادات على الرواتب، وتجربة رفع الحد الأدنى للأجور إلى 675,000 ليرة لبنانيّة مطلع العام 2012 لا تزال ماثلة في الأذهان، عندما إستتبعتها زيادات في أسعار الكثير من السلع والمُنتجات وحتى في أسعار الخدمات، علمًا أنّ إرتفاع الأسعار سيكون أكبر بكثير هذه المرّة، لأنّنا نتحدّث عن قفزة كبيرة جدًا في قيمة رواتب العسكريّين وموظّفي القطاع العام، وليس مجرّد زيادة طفيفة يُمكن إمتصاص مفاعيلها السلبيّة.
رابعًا: صحيح أنّ موظّفي القطاع العام سيضخّون المزيد من الأموال في لبنان وسيقدمون على عمليّات شراء أكثر وأكبر من حيث القيمة، وهذا أمر إيجابي، لكنّ الإنعكاسات الجيّدة لهذا الأمر لن تدوم كثيرًا، لأنّ التضخّم المالي المُتوقّع سيمتصّ فائدة الزيادة المُرتقبة في الحركة الشرائيّة لبعض فئات المُجتمع بشكل تدريجي، حيث أنّ القُدرة الشرائية لجزء من اللبنانيّين لا يُمكن أن تكون على حساب تراجع القُدرة الشرائيّة لمواطنين آخرين لن تطالهم أيّ زيادات في المرحلة الأولى، وسيُعانون لفترة من الوقت من ضيق إقتصادي ومالي كبير. وحتى عندما ستلحقهم أيّ زيادات بدورهم، سيكون الوقت قد فات، لأنّ التضخّم المالي سيكون قد حصل، وإمتصّ قدرتهم الشرائيّة.
وفي خلاصة لآراء مجموعة من الخبراء الإقتصاديّين، إنّ أي فارق في القدرة الشرائية لأشخاص مُتشابهين من حيث المُستوى العلمي وقيمة العمل المُنفّذ ضمن مُجتمع واحد لا يُمكن أن تقود إلى إستقرار إقتصادي ومالي بأي شكل من الأشكال. أكثر من ذلك، إنّ رفع الرواتب يجب أن يتم بشكل تدريجي، وبوتيرة تصاعديّة، يُمكن مُواكبتها والتأقلم معها، وليس دفعة واحدة بعد سنوات طويلة من التجميد والتأجيل. كما أنّ أيّ زيادات للرواتب في أي مُجتمع، يجب أن تترافق مع خطة نهوض إقتصادي، ومع تأمين موارد مالية مُناسبة لتمويل الزيادات وليس عن طريق فرض ضرائب تطال الكثير من الطبقات الشعبيّة والمتوسّطة، لأنّ الجهات المُتضرّرة من "السلسلة" لا تقتصر على "حيتان المال" كما يقول البعض، ولا على مالكي "قطاع المصارف" كما يُحاول البعض الآخر تصويره، بل هو يشمل كل العاملين في القطاع الخاص وكل أصحاب المهن الحرّة. وبرأي هؤلاء الخبراء الإقتصاديّين أيضًا، إنّ إقرار "السلسلة" بالشكل الذي حصل، هو بمثابة وضع مُوظّفين لبنانيّين بمُواجهة مُوظّفين لبنانيّين آخرين، وهذا أمر لا يجوز إطلاقًا!