لفت رئيس أساقفة بيروت المطران بولس مطر في كلمة له خلال حفل تكريم السفير الفرنسي برونو فوشيه وأركان السفارة، بمناسبة عيد انتقال السيدة العذراء إلى السماء بالنفس والجسد إلى أن "العلاقات التاريخية بين لبنان وفرنسا"، مشيراً إلى أنه "بعاطفة صادقة نستقبلك يا سعادة السفير في كرسينا الأبرشي الصيفي بمناسبة زيارتكم التقليدية هذه، وهي الأولى التي تقومون بها في لبنان منذ وصولكم إلى مقركم الجديد في قصر الصنوبر. إن مواطني الحاضرين معنا هنا، وهم أعضاء في الجسم الكهنوتي أو علمانيون من الأبرشية، يشاطرونني الترحيب بكم في ربوعنا، متمنين لكم إقامة سعيدة ومثمرة للبنان، البلد العزيز على قلب فرنسا كما هي فرنسا. لفرنسا التي طبع حبها في قلوب اللبنانيين من خلال صداقة تجمعنا منذ أجيال وبدون انقطاع".
ودعا لـ"أن نستذكر سلفكم السفير إيمانويل بون الذي كانت له هو أيضا، زيارة إلى هذا الكرسي في عين سعاده في الأسبوع الأول لوصوله إلى لبنان. لقد أقمنا بحضوره - كما فعلنا الآن - قداس الخامس عشر من آب، وهو الذي دأب على إقامته كل من تولى رئاسة أساقفة أبرشية بيروت منذ أكثر من قرن ونصف القرن على نية بلدكم العزيز وبحضور قناصل فرنسا سابقا، قبل أن يصبح التمثيل على مستوى السفراء، وذلك وفاء لعلاقة نحرص عليها معا حرصا شديدا"، مشيراً إلى "إننا نتمنى معا للسفير بون النجاح التام في مهمته الجديدة في خدمة فرنسا، ورئيسها إيمانويل ماكرون، الذي نجدد له تهانينا الحارة لالتزامه مسيرة فرنسا وتقدمها نحو آفاق جديدة واعدة، تتسلمون يا سعادة السفير مهامكم في بلد قلق كما جيرانه على مستقبل هذه المنطقة من العالم، لكنه يملك ثقة بنفسه لا يمكن أن يبررها المنطق الطبيعي للأشياء. فالبلدان التي تحيط بنا، كما الكثير سواها من بلدان العالم، تجتاز حاليا أزمة هويات وطنية، مجتمعية ودستورية ونحن نشهد، بعد قرن من الاستقلال والانفتاح نحو الحداثة، عقب سقوط الأمبراطورية العثمانية، موجة إنعزالية تتوسل المظاهر الدينية في ممارستها العنف والتطرف الذي يدخل إلى عالمنا ويرفض كل حوار مع الآخر ويضطهد ويهجر عن غير حق جماعات مسيحية وغير مسيحية، بصورة تهز أساسات الحضارة ذاتها".
وأفاد أن "لبنان فإنه بحمد الله لم يفتح أبوابه لهذا الشر الذي ينشر الإرهاب ويزرع في طريقه الألم والدمار، لقد اجتاز بلدنا منذ ربع قرن أزمة حكم خطيرة، لكنه وبروح التعايش المزروعة في تقاليده، وبفضل أصدقائه الذين دعموه في الحفاظ على وحدته وبالأخص فرنسا استطاع أن يحافظ على النهج الصحيح وأن يحمل بيده من جديد رسالة العيش الحر والمتوازن للشرق كما للغرب. إلا أن هذه الأزمات التي يجتازها لبنان والشرق الأوسط، على اختلافها وتنوعها، قادتنا إلى إبراز ثوابتنا القادرة وحدها على استيعاب مصاعبنا وعلى تجاوزها وهذه الثوابت تختصر بفكرة أن المعركة الحقيقية التي تستحق أن نخوضها ونربحها في الحياة هي معركة الإنسان المتضامن مع الإنسان ومع دعوته إلى عيش مشترك معه يجعله سعيدا في تضامنه ولقد اكتشفنا من جديد واقع أن يكون في لبنان مجتمعا تعدديا وموحدا في الوقت عينه، وهذا ما يدل على معنى لبنان الحقيقي منذ وجوده. وفي ضوء ذلك أيضا فهمنا كيف تعيش فرنسا الانسجام الرائع بين الحرية والانفتاح على الآخر، مما قربنا إليها، منذ كان الملك القديس لويس التاسع يعتبر الموارنة جزءا من شعب مملكته وإذا كانت فرنسا، الملكية ثم الجمهورية، قد حفظت للبنان الصداقة عينها وذلك لأن العلاقة بين شعبينا لم تؤسس لا على التحالفات السياسية ولا على المصالح الاقتصادية بل على مجموعة القيم المشتركة التي توحدنا، إنها قيم الحرية في كل أبعادها، والمساواة في الحقوق والواجبات بين مواطنين متساوين، إنه قبول الآخر بروح منفتح على العالمية".
ولفت المطران مطر الى انه "في إثارتنا لهذه الثوابت التي تشكل أساسا لصدقاتنا، نستعيد يا سعادة السفير الخطاب الذي ألقيتموه في 14 تموز الماضي في "قصر الصنوبر" وقد أكدتم فيه أن العلاقات بين بلدينا لا تقوم على المصالح الظرفية، وأن لا خلفيات لها على الإطلاق ولفهم حقيقة علاقاتنا أكثر، يمكننا العودة إلى تاريخ الفكر السياسي الفرنسي حيث نكتشف أن مفهومكم للأمة يتضمن في آن الهوية والانفتاح وإن مفهوم الأمة بالنسبة إلى فرنسا هو مفهوم الجماعة التي يصنعها التاريخ أكثر مما تصنعها الإنتماءات الخاصة بالقومية أو بالدين. إنها فرنسا التي طالما جذبتنا وأثارت إعجاب العالم أجمع كلما تعلق الأمر بحقوق الناس والمواطنين والشعوب، وبالحرية التي هي الركن الأساسي للقيم الأخرى مثل قيمة الحياة والسعادة".
وأفاد أن "لبنان رأى في فرنسا مثالا للمجتمع وللحضارة قائما على العيش معا في حرية هي للجميع. ولهذا السبب عينه أحبت فرنسا لبنان ورأت فيه مثالا لكل المنطقة واعدا بالتسامح وبالتعددية، فبهذا الهدف رافقت فرنسا لبنان على مدى عشرة قرون ودعمته من خلال صداقة بدأت مع الكنيسة المارونية ثم مع الجماعات الدينية الأخرى التي صنعت كلها ومجتمعة الوطن اللبناني. وفي الروحية ذاتها دعمت فرنسا لبنان في الجهود التي قام بها مواطنوه ليوضع في مصاف الدول ذات السيادة. وإننا بعد ثلاث سنوات من اليوم سنحتفل بالمئوية الأولى لإعلان لبنان الكبير الذي جرى في أول أيلول 1920 على منصة مقر سفارتكم في بيروت، في ذلك الحدث العظيم كان حاضرا البطريرك الماروني وإلى جانبه، رؤساء الطوائف الأخرى وعدد من كبار قياديي ذلك العصر. كما ساعدت فرنسا فيما بعد، دولتنا اللبنانية على تكوين هيكليتها خلال فترة الانتداب مع اعتبار تلك الفترة انتقالية وموقتة. وساعدتنا فرنسا أيضا بعد الاستقلال الناجز للبنان في مختلف المجالات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والأمنية والسياسية. وحين اندلعت الحرب على حدودنا الجنوبية، لم تتوان فرنسا عن بذل كل جهد، مباشرة أو بواسطة الأمم المتحدة، للمساعدة في الحفاظ على سيادة هذا البلد والإسهام في أمنه مع ما كلف ذلك جنودها المنضويين تحت راية الأمم المتحدة من ضحايا وتضحيات جسام".