ليس مشهد وزيري الصناعة والزراعة اللبنانيين في دمشق عابرا، فهو وبحسب كل المؤشرات يوحي بانطلاق موسم العودة اللبنانية الى سوريا، مع اعلان وزير الزراعة غازي زعيتر ان زيارته الى دمشق رسمية، وهي بتوجيه من رئيس مجلس النواب نبيه بري الذي آثر طوال السنوات الماضية وفريقه السياسي الانكفاء الى حد كبير عن التطورات السورية مقابل الانخراط العلني والدعم المطلق الذي قدمه حزب الله للنظام هناك طوال الأعوام الـ6 الماضية.
اليوم تبدلت الأحوال، وانحسمت المعركة السورية، أقله ميدانيا، بانتظار تسوية ترسّخ بالسياسة ما تحقق على الارض. فنجاح محور ايران-سوريا-حزب الله باعادة فتح طريق دمشق-بغداد ومن خلفها طريق بيروت-طهران، ووصوله مؤخرا الى حدود الأردن في محافظة السويداء، والأهم محاصرة قاعدة التنف الاميركية-البريطانية والتي أصبحت بحكم الساقطة عسكريا ما يمهد لتسليمها الى موسكو، عناصر 3 من جملة عناصر أخرى ولعل أبرزها استعداد النظام وروسيا لخوض معركة دير الزور، تؤكد ان الأمور وصلت في سوريا الى طريق اللاعودة والحسم وأن واشنطن سلّمت موسكو ادارة الوضع الحالي في سوريا باطار صفقة تكسب فيها بمناطق وملفات أخرى.
المشهد السابق دفع بعدد من المعارضين السوريين الذين كانوا يعملون من الخارج مؤخرا الى الالتحاق بصفوف معارضة الداخل الجاهزة تماما للجلوس مع النظام بحثا عن دور لها في المرحلة المقبلة. فالأزمة الخليجية ألقت بثقلها على ما تبقى من مجموعات المعارضة السورية خاصة مع ما تردد عن ايقاف قطر تمويل الائتلاف السوري، وهو الكيان الأبرز الذي لطالما كان الناطق باسمها قبل أن تنقضّ "الهيئة العليا للمفاوضات" عليه فتبتلعه الى حد كبير.
ولعل حال المعارضة السورية ليس أفضل بكثير من أحوال القوى اللبنانية المناوئة للنظام في سوريا، والتي لم تعد تتردد بالتعبير عن خيبتها مما آلت اليه الأمور في المنطقة نتيجة السياسة الأميركية المترددة في عهد الرئيس السابق باراك أوباما، والمصوبة باتجاه "داعش" و"جبهة النصرة" في عهد الرئيس الحالي دونالد ترامب، وهو ما ساهم برأي هذه القوى لتنامي النفوذ الايراني كما الروسي وبالتالي تعاظم دور حزب الله في الداخل اللبناني كما في المنطقة ككل.
وان كانت "القوات اللبنانية" لا تزال صاحبة النبرة الأعلى في التصويب على النظام السوري وعودة العلاقات معه، تبدو لهجة "الكتائب" كما "التقدمي الاشتراكي" مختلفة عما كانت عليه في السنوات الماضية وكأنهما يستعدان لركوب قطار التسوية التي تُطبخ للمنطقة. أما تيار "المستقبل" ورئيسه سعد الحريري فهو لا شك الفريق الأكثر احراجا جراء ما يحصل، فلا هو قادر على اعتماد لغة حازمة بموضوع زيارة الوزراء الى سوريا لما يشكله ذلك من تهديد واضح لتماسك واستمرارية الحكومة، ولا هو قادر على التطبيع مع النظام في دمشق طالما الصفقة الاميركية-الروسية لم توقّع بعد.
أما القوى المقربة أصلا من دمشق فانتقلت من مرحلة التواصل البعيد عن الاضواء والذي بقي مستمرا طوال الفترة الماضية مع المسؤولين السوريين، الى مرحلة التفاخر بزيارتها لا بل أكثر من ذلك حملت ملفات التعاون الاقتصادي اليهم. وكان آخر الوزراء الذين أعلنوا التوجه الى سوريا وبصفة رسمية، وزير الاشغال المحسوب على تيار "المردة" يوسف فنيانوس، ليقفز بذلك 3 وزراء فوق قرار وارادة رئيس الحكومة سعد الحريري المعلنة بحصر هذه الزيارات باطارها الشخصي لا الرسمي.
وتتجه الأنظار في المرحلة المقبلة الى زيارات قد يقوم بها وزراء "التيار الوطني الحر" الى دمشق.
بالمحصلة، هو وكما اختصره مقربون من بري، عهد جديد من العلاقات الرسمية بين لبنان وسوريا يضع حدا لسياسة النأي بالنفس، ويمهّد لمرحلة فيها الكثير من الحرج والكثير من التنازلات والتبريرات.