إذهبوا الى سوريا، ولكن...
إذهبوا كلُّكمْ، الحكومة كلُّها، الوزراء جميعاً بلا استثناء، وانزحوا إليها وأدّوا كلَّ فرائض الحجّ، ولكن... أمام مقام ذلك القاضي السوري الذي اسمه الشيخ سعيد الحلبي.
قفوا أمام ضريحه كمثل ما وقف ابراهيم باشا عندما دخل دمشق فلاحظ غياب قاضيها الشيخ سعيد من بين الذين احتفوا به، ولما ذهب إليه مع حاشيته كان امتعاضهُ شديداً حين استقبله الشيخ سعيد جالساً على فراشه وهو يمدُّ رجليه.
ولأن ذلك الشيخ كان ذا مكانة مرموقة ومقامة عاليه أرسل إليه الباشا في اليوم التالي كيساً ثميناً من الدنانير في محاولة لاستقْطابهِ، فانتفض القاضي الشيخ في وجْهِ مرافق الباشا قائلاً: إرجع الى سيدك وقلْ له: إنّ الذي يمدّ رجليه لا يمدّ يده.
المشكلة في الزيارات الى سوريا وغير سوريا، ليست في الصفة الرسمية أو الصفة الشخصية، بل في شخصية ذوي الأيدي الممدودة والأرجل المطويّة والرؤوس المنخفضة.
الصفة الرسمية أو الصفة الشخصية ثنائية شرعية عندنا تدخل في إطار النظام، فالشخصي عندنا انتحل صفة الرسمي، والرسمي تحوّل الى شخصي، وليس هناك ما يفرّق بينهما حتى ذاك الذي يحرّمه الله.
ومشكلة الحكومة مع الوزراء ليست في الصِفة التي بها يذهبون الى سوريا فحسب، بل بقرار ذهابهم الحتمي الى سوريا، بصفة شخصية أو رسمية سواء شاءت الحكومة أو أبَتْ، وافقَتْ أو رفضَتْ، مع أن في الحكومة وزراء يزورون السرايا الحكومية بصفة سورية.
كيف يمكن مقاطعة الزيارات الى سوريا، ونحن نزورها يومياً عبر المليون ونصف المليون نازح سوري على أرضنا، فنحن عندها وهي عندنا.
وسوريا في أيِّ حال ليست مكّةَ المكرَّمة التي يقال فيها: تزارُ ولا تزور، فالشام تزور جداً، وتستمتع في الزيارة جداً، ولا ترحل إلّا مكرهة.
ما عدا ذلك، فالمسألة ليست مطروحة من زاوية عدم إعطاء شرعية للرئيس الأسد، فالشرعية ليست منحة تستورد من الخارج، لأنّ أي مسؤول لا يحظى بتغطية شعبية في بلاده لا يكون أسداً.
والأمر ليس مطروحاً من زاوية الموقف المبدئي أو الموقف الوطني أو من جهة إدانة نظام الأسد، ففي زمن عدم جفاف الدم كانت زيارة للرئيس فؤاد السنيورة في تموز 2005، وتبعتها زيارة أخرى للرئيس سعد الحريري بعد اتفاق الدوحة الميمون.
وفي زمن ارتفاع حرارة المواجهات دعا وزير الخارجية السعودي عادل الجبير «الى العمل من ضمن بقاء بشار الأسد في السلطة لسنة أو سنتين...» وطبعاً بتنسيق أميركي - روسي، وقد يجدّد الجبير رئاسة الأسد سنتين أو ولايتين، وأيضاً بتنسيق أميركي - روسي، وكأنّ الأميركي والروسي حَرَمانِ شريفانِ في الوحي السياسي.
وكما في السعودية كذلك في لبنان، وكما في إيران كذلك في السعودية، هنالك ولايةُ فقيهٍ من نوع آخر وحزبٌ من نوع آخر لله.
وفي لبنان أيضاً إذا لوّح حزب الله «بمعبر إجباري» جديد الى بعبدا ترى أهل المعابر الإجبارية تسقط عندهم كل المواقف الرنانة على غرار ما سبق من تقلبات حين كانت طريق القصر تمرُّ من طريق الشام وولاية الفقيه.
في معزل عن المكابرة واستثمار العنفوان الفارغ فليس في مقدور لبنان مقاطعة سوريا دولة أو نظاماً، أياً كانت هذه الدولة وأياً كان هذا النظام.
لأن سوريا هي الشقيقة الإجبارية الوحيدة، وهي المعبر الإجباري الوحيد الذي يمر منه الهواء الى لبنان، وسواء كان الهواء الذي يأتيه منها نقيّاً أو ملوَّثاً فلا حياة بلا هواء.
نعم... إذهبوا الى الشام وانحنوا أمام ضريح الشيخ سعيد الحلبي، أو الأمير عبد القادر الجزائري الذي منحه نابوليون الثالث وسام جوقة الشرف الفرنسي للدور الذي لعبه في إنقاذ حياة المسيحيين خلال مجازر 1860 التي وقعت في دمشق.
وهنيئاً لذلك الزمن، زمن الأمير الجزائري ونابوليون الثالث وزمن القاضي الحلبي وابراهيم باشا، يوم كانت الأرجل أكرم من الأيدي ويوم كانت رؤوس الباشاوات تنحني أمام أقدام الشيخ سعيد.