لا يبدو أن البواخر المتخالف عليها ستحمل تفاهم معراب الى شاطئ بعيدٍ من برّ أمانه، ولا يبدو أن الترشيحات الاعتباطية «النكائية» سترشّح أو سترشَح خصومةً بين الفريقين، ولا يبدو أن فتور مصالحة الجبل ستفرض على طرفَي التفاهم مصالحة لأن لا خلاف أصلًا، ولا يبدو أن انتخابات المهندسين هندسَت طلاقًا كنسيًا بين بطلَي 18 كانون الثاني. فما قبل لقاء اللقلوق غير ما بعده.
على قاعدة «الضربة التي لا تقتل تقوّي» يسير العونيون والقواتيون هذه الأيام. ففي حسابات الطرفين أقله ظاهرًا لا خلاف ولا فتور بل اختلاف «بديهي» في وجهات النظر تمّ توضحيه في لقاء اللقلوق الذي جمع الوزير جبران باسيل والوزير ملحم الرياشي والنائب ابراهيم كنعان حيث تمّ التوضيح والاستيضاح مع الارتقاء بالتنسيق العميق عنوانًا للمرحلة المقبلة.
لا ذوبان!
منذ وقّع الفريقان المسيحيان ورقة تفاهم معراب تعهّدا عدم ذوبان الواحد في الآخر. نال العونيون قسطهم من الرئاسة بسعيٍ قواتي، فيما نال القواتيون قسطهم الحكومي بسعيٍ عوني-رئاسي. تساوى طرفا المصالحة والمصلحة تقريبًا، قبل أن يفتحا الباب على سجالاتٍ ما توقّفت يومًا على طاولة الحكومة رغم محاولتهما عدم فتح الباب أمام «الشمّاتين» المشككين في صدقية تفاهمهما. لم يفلحا كثيرًا وإن حاولا غالبًا «طمطمة» الأمور والتعتيم على بعض الاختلافات الأقرب الى خلافات جوهريّة حيال ملفاتٍ لا يمكن القول إنها تفصيلية. كثيرًا ما شهدت طاولة مجلس الوزراء غضب وزراء القوات من أداء بعض وزراء التيار الوطني الحر وتحديدًا وزير الخارجية والمغتربين جبران باسيل... رغم هذه النظرة المبطّنة التي يعرفها القاصي والداني والقائمة على عدم «هضم» القاعدة القواتية وحتى كوادر معراب للوزير باسيل، بقيت العلاقة مترنّحة في الخفاء «ورديّة» في العلن مع مساعي بطلَي المصالحة الوزير الرياشي والنائب كنعان الى تضميد الجراح وعكس صورة وئام رهيبة عصيّة على الكسر.
ناصعة... بلا خروق
لم يعجز الرياشي وكنعان ولم يستسلما. فمن غيّر وجهَ التاريخ في ليلةٍ قمراء لن «يكعى» عليه إخراس الأبواق المنشّزة في فضاءَي معراب والرابية، كما أن رئيس الجمهورية حريصٌ كلّ الحرص على إبقاء صورة ورقة 18 كانون الثاني ناصعة بلا خروقٍ جدية مع التسليم بأهمية الاختلاف. ذاك الاختلاف يتجلى
أولًا في اعتراض معراب على أداء حزب الله «العسكري» داخل الأراضي اللبنانية وخارجها وإن أبدت ليونةً غير متوقّعة إزاء معركته ضد الإرهابيين في الجرود، في المقابل يبدو الموقفان الرئاسي والعوني واضحيَن إزاء دعم المقاومة أنّى حلّت. قد لا يكون هذا التفاوت كفيلًا بزعزعة أسس العلاقة المتينة بين العونيين والقواتيين ولكن ماذا لو تخطّى التباينُ خلافًا حول طرفٍ ثالثٍ الى البيتَين الداخليَّين المنصهرين حدّ اعتبارهما بيتًا مسيحيًا واحدًا؟
أربع نقاط...
ثقيلةً بدت التراكمات بين التيار والقوات. ثقيلة لكن ليس حدّ هدّ الهيكل على رؤوس من فيه ركونًا الى الوعي الصامد لدى بعض كوادر الطرفَين إزاء أهمية عدم فرط عقد الإنجاز المسيحي التاريخي الذي تحقق في معراب والذي أثبت فعاليته في غير مناسبة خصوصًا لدى محاولة أطراف آخرين «ابتلاع» حقوق المسيحيين أو في أحسن الأحوال استقلال مقصورة «غبنهم». أربعُ نقاط نهل منها الفتور «الطفيف»: رغم مرور أشهرٍ عليها، لم يبتلع العونيون بعد حكاية رسوب مرشحهم في نقابة المهندسين لصالح مرشّح المجتمع المدني، وهم يعلمون في قرارات أنفسهم أن خرقًا قواتيًا وعدم التزام أدّيا الى مثل هذه النتيجة التي لا «يحرز» فيها العتاب والجدل البيزنطي. عبرت الأيام ولكنّ بواخر الكهرباء لم تعبر، فشكّك القواتيون في نوايا التيار وكان نوعٌ من الاتهام لوزير الطاقة بصفقةٍ محكمة لا تفيد إلّاه. نام الملف في أدراج الحكومة ليستفيق ماردٌ آخر في الجبل وتحديدًا في ذكرى المصالحة التي غاب عنها العونيون وعزوا ذلك الى «تغييبٍ» قسريٍّ ومتعمّد من القواتيين وتحديدًا من قواتيّي المنطقة. هو أحدث الخلافات ولكنه ليس الأكثر وقعًا مع بروز ترشيحاتٍ استباقية اعتباطية نكائية لدى الفريقين وأكثر لدى الطرف المعرابي. اتّضحت الصورة الانتخابية في أكثر من منطقة وفهم أبناء الفريقين أن الانتخابات لن تجمعهما في كل الأقضية. رفع القواتيون سقف التحدّي بترشيحهم زياد الحواط في جبيل فكان القرار: التحالفات وفق ما تقتضيه المصلحة المسيحية.
الى غير رجعة!
اليوم يبدو المشهد مغايرًا بعد لقاء اللقلوق الشهير. يمكن لكلا الفريقين أن يقولا بأريحية إن الفتور زال بينهما ربما الى غير رجعة. هي مساعي الدينامو كنعان والمتعقّل الرياشي الذي انتظر باسيل في جلسة حكومية ليتحدث عن ترميم بيوتٍ أثرية ليسأله بخفة ظلّ: وبيتنا الأثري متى نرممه؟ فأتاه الجواب إيجابيًا من باسيل وتمّ اللقاء الذي شهد «تصفية قلوب» وإحاطة بكل الملفات مع اعتراف بخطأ الطرفين القائم على عدم التنسيق المُسبَق في الملفات الوزارية. استذكر الرجال الثلاثة الإنجازات التي حققتها ثنائيُتهما من رئاسة الجمهورية الى قانون الانتخاب الى تعزيز الحضور المسيحي في الدولة، واتفقوا على أهمية التنسيق الدائم الذي لم يتوقف أصلًا حتى قبل اللقاءات والاتصالات «الترميمية».
سدّ الثغرة
إذًا هي ثٌغرة في التنسيق يعترف بها طرفا تفاهم معراب. ثغرةٌ كادت تودي بتفاهمهما «في ستّين دهية» لو لم يتحرك عراباه الحريصان المتقاربان. ثلاث ثوابت راسخة في تلك العلاقة الغريبة: المصلحة المسيحية أولًا، ما قبل لقاء اللقلوق غير ما بعده، والتنسيق يجب أن يكون عميقًا... عميقًا.