هأنذا مجددًا أجدني عاجزًا عن إخراس "أناي". أتخابطُ وإياها علّني أنتزع منها صمتًا عن الكلام والمِداد عبثًا. أكرّرُ نفسي. بعضُ كلماتي هي ذاتُها. لا أجدُ بدائلها في المناجد وإن فعلتُ تبدو تعجيزية. عنهم أجدني مرتين وثلاثًا ودهرًا كاتبًا. بسببهم أستسيغ التكرار رغم كرهي له في الأيام العادية. بسببهم أُغرَم في وجدانياتي التافهة التي تترامى على مقربةٍ من عقلانيةٍ تحاول ردعي من دون أن تفلح.
ارتأيتُ للحظاتٍ أن أكتبَ ترنيمة. تراجعت. ما الجديد الذي أقدّمه طالما أن ملايين الشفاه ترنّمُ لهم، لأحياء التراب وشهدائه. لجابليه بسير أقدامهم ولجابليه بعبق بخور دمائهم؟ ما الجديد في الصورة وما الغريب فيها طالما أن رجال الجبهات ما اعتادوا إلا أن يكونوا كما نراهم اليوم، يعرفون خير معرفةٍ أنهم أمام عودةٍ من اثنتين: إما محمّلين على الأكفّ أبطالًا يُرزقون، وإما محمّلين على الأكف أبطالًا يُبكون؟ ما الجديدُ في المشهدية سوى قبلةٍ رئاسيّة طبعها "باسلُ" القصر على جبين "باسل" الميدان الجريح الذي ما أراد سوى أن يعود الى رفقائه، حيثما الغبارُ يغطّي الوجوه؛ حيثما أنسجة الشمس تخترق بزّات المجد، تأتمنها على بعضٍ منها، على تسللاتٍ خفِرة تزيد من تعرّق القمصان التي تشتهي أمهاتٌ ضمّها وشمّها سرمدًا. الى هناك، حيثما المجدُ بلغ الزُبا؛ حيثما الدمُ يخصِّب، يُقيت، يغذّي ترابًا، يُخرِس شيطان القُحل والقُحط بكثيرٍ من ماء الشرف.
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا ندين لهؤلاء بقلوبنا وعقولنا؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا لا ننحني إلا لخالقنا ولهم؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا لا نستحقُّ أن نلبس ما يلبسون ولا نأكل ما يأكلون في الجرود؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا أبناء آدم وحوّاء، جبناء حدّ أننا لا نتمنّى أن نكون موضِعَهم لأننا نخاف على روحِنا وعلى حرقات من حولنا؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا نبكي اليوم شهيدًا ونستفيقُ غدًا في يومٍ عاديٍّ ليعلَّمَ الجرحُ مطرحَه، في قلب أمٍّ تُسمِع وأبٍ يختنق؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا أبناءُ تلك المؤسسة بجسدٍ فانٍ وروح أزليّة؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا جماعةٌ تافهةٌ منّا من يجيد التعاطف الببغائي، ومنّا من يجيد رمي البغضاء والحقد بتقزيم التضحية، ومنّا من يجيد "التفذلك" ببعض العبارات الإنشائيّة؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا نكرّس صلواتِنا لهم هذه الأيام، ولهم وحدهم، مع اعتذارٍ مسبَق من بارينا الذي قد يبدو لجؤونا المكثّف إليه في الساعات القليلة الفائتة ضربًا من ضروب المصلحة، ومع ذلك يسامحنا ويصغي ويحمي؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا أبناءُ القصر الذي لا تغفو عينُ سيّده إلا بعد الاطمئنان الى سلامة أبطال مؤسسته؟
أشِعرٌ الاعترافُ بأننا أبناءُ ذاك الرجل، أبناءُ قُبلته التي تشمخ بها الأجبنة، تحيا، تعتاش، تخجل بعض الجروح أمام تواضع حركته وكِبَرِها؟
أشِعْرٌ الاعترافُ بأننا، نحن ذوي الأقلام المتواضعة، القادرة والمقتدرة، نعلنُ تسخير مدادِنا وصلواتنا لهم... ولهم وحدهم؟
لا حاجة الى الاعتذار عن تكرار متعمّد، عن "اجترار" فُكَر وكلُمٍ، عن عاطفةٍ تُقمَع في كلّ حين إلا عندما يكون الجيش بطلَ الحكاية... لا حاجة الى الاعتذار إلا من جنود الجرود، عن كلّ إساءةٍ، عن كلّ شطحةٍ فكريّة، عن كلّ شكٍّ بقدراتهم، عن كلّ تشكيكٍ بإيماننا فيهم، عن كلّ حبٍّ ناقص، عن كلٍّ لاصلاةٍ، عن كلّ زلةٍ، عن كلّ شهيدٍ من أجلنا يرحل... لا حاجة الى الاعتذار إلا من أمٍّ عن كلٍّ دمعةٍ زائفة، عن كلّ فلذةٍ تتلاشى، عن كلّ صورةٍ يحتضنها الجدار، عن كلٍّ روحٍ تسمو الى فوق، الى علِ، الى حيثما يسمع ويرى بمنظار من رجاء، ويحرس ببندقيةٍ من روح، ويترقّى بنجمةٍ من سماء.
* الى أرواحهم الجميلة.