مطلع حزيران 2015 تمّ توزيع "بنود إعلان النوايا" بين "التيار الوطني الحُرّ" وحزب "القوات اللبنانيّة"، ثم جاء "تفاهم معراب" في 18 كانون الثاني 2016 ليُكمّل هذه الخطوة بين القوّتين السياسيّتين الأقوى تمثيلًا وشعبيًا في الوسط المسيحي. ومنذ ذلك الحين، يتعرّض هذا التقارب الذي طوى ثلاثة عُقود من الخُصومة الحادة بين الطرفين وحتى من العداء في بعض المراحل، لإطلاق نار إعلامي وسياسي. وفي الأيّام والأسابيع القليلة الماضية، تجدّد هذا المنحى نتيجة تراكم مَجموعة من الخلافات بين "التيّار" و"القوات". فما هي الأسباب، وهل ستعود الأمور بينهما إلى "نقطة الصفر"؟.
بداية، لا بُدّ من الإشارة إلى مُفارقة لافتة تتمثّل في أن وحدها العلاقة بين "الوطني الحُرّ" و"القوّات" تأخذ هذا القدر من الإهتمام من الحُلفاء والخُصوم على السواء، إن تقدّمت وتوطّدت أو تراجعت وتدهورت! في المُقابل، إنّ تحوّل العلاقة بين "الوطني الحُرّ" و"تيّار المردة" مثلاً من تحالف كامل ضُمن كتلة سياسيّة نيابيّة واحدة إلى خُصومة حادة وجفاء لم يسبق له مثيل لا يُثير كل هذا القدر من التركيز، وكذلك الأمر بالنسبة إلى تحوّل العلاقة مثلاً بين "القوات" وحزب "الكتائب اللبنانيّة" من تنسيق كامل وتكاتف في الإنتخابات وفي التموضع السياسي إلى خُصومة وتراشق إعلامي وإلى تباعد غير مسبوق لا يتسبّب بدوره بكل هذا الإهتمام. وهذا بحدّ عينه يؤكّد الحجم الذي يُمثّله كل من "التيّار الوطني الحُرّ" وحزب "القوات اللبنانيّة" في الحياة السياسيّة اللبنانيّة، والقيمة المعنويّة التي يُمثّلانها في المُجتمع اللبناني بشكل عام والمُجتمع المسيحي بشكل خاص، الأمر الذي يترك آثارًا مُباشرة لأي تباعد أو تقارب بينهما، مع التذكير بأنّ كل الإحصاءات والدراسات التي أجريت منذ توقيع "تفاهم معراب" أظهرت أنّ أغلبيّة كبيرة من المسيحيّين تُطالب ببقاء هذا التفاهم وبتعزيزه وبتوسيعه، الأمر الذي يُضاعف من المسؤولية المُشتركة للحفاظ عليه، ولعدم تخييب الآمال بشأنه.
بالنسبة إلى الأسباب التي أدّت إلى ظهور التباعد مُجدّدًا بين "التيّار" و"القوّات" فهي مُتعددّة، وهي تشمل ملفّات سياسيّة بقي التباعد بينهما كبيرًا بشأنها، علمًا أنّ التوقّعات بحُصول توافق إستراتيجي كامل بين الطرفين لم تكن كبيرة من الأساس، وملفّ التعيينات الذي أثار حفيظة "القوّات" بسبب أسلوب التعيين وحجم حصّتها وطريقة تعامل "التيار" مع هذه التعيينات، وملفّ الكهرباء الذي أثار حفيظة "التيار" من أسلوب تعامل "القوات" فيه، إلى ما هناك من ملفّات صغيرة شائكة. لكن السبب المركزي والأهم لهذا التباعد يتمثّل في إنهيار أحد أركان أسس التفاهم بين الطرفين، وتضعضع الآخر! فالخط العريض غير المُعلن للإتفاق الذي قضى بترشيح "القوّات" للعماد عون وبدعم وُصوله إلى رئاسة الجمهوريّة كان تحت عنوانين: الأوّل "التحالف في الإنتخابات النيابيّة" والثاني "الشراكة في الحُكم"، لكن بعد التوافق اللبناني العام على قانون إنتخابات يعتمد مبدأ التصويت النسبي وليس الأكثري، وبعد مجموعة من الدراسات والإحصاءات، تبيّن أنّ مصلحة كل من "التيّار" و"القوّات" الإنتخابيّة لن تكون في لوائح مُشتركة بينهما، إنّما في لوائح مُنفصلة، الأمر الذي أسفر عن سقوط أحد الأعمدة الرئيسة لهذا التفاهم، وعن إهتزاز العمود الآخر المُتمثّل في الشراكة في الحُكم.
لكنّ مصادر كل من "الوطني الحُرّ" و"القوّات" تلاقت على التأكيد أنّه مهما بلغت حدّة التباينات في وجهات النظر بين الطرفين في المَرحلة المُقبلة، ومهما تراكم من خلافات سياسيّة ومن إختلاف في وجهات النظر بشأن إدارة الحُكم ومعالجة القضايا الحياتية والمعيشيّة، فإنّ لا عودة إلى مرحلة العداء القديمة بأي شكل من الأشكال. وطمأنت هذه المصادر أنّه في حال توزّع مُرشّحي "التيار" و"القوّات" على لوائح مُتنافسة في الإنتخابات النيابيّة المُقبلة، فإنّ الأمر سيكون عبارة عن تنافس إنتخابي ديمقراطي، كما يحصل في كثير من الإنتخابات الطالبيّة وكما حصل في كثير من معارك الإنتخابات البلدية الأخيرة. وأضافت أنّ المُواجهة الإنتخابيّة يُمكن أن تقع بين الطرفين، لكنّها لن تكون بأي شكل من الأشكال على حساب التفاهم الثنائي بين "التيّار" و"القوّات" لأنّ زمن العداوة المُتبادلة طُوي إلى غير رجعة، وزمن إستضعاف المسيحيّين من قبل الآخرين إنتهى، وزمن السماح بتغذية إنقسامات المسيحيّين الداخليّة لتحقيق مكاسب على حسابهم وعلى حساب حُقوقهم وحُضورهم في السُلطة، لن يعود إطلاقًا.