مجدّداً، غاب ملفّ الانتخابات الفرعية المفترضة في كسروان وطرابلس عن طاولة مجلس الوزراء في الجلسة التي عقدها في بيت الدين هذا الأسبوع، رغم "الوعود" التي قطعها وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق بطرح القضيّة وبتّها، وذلك بذريعةٍ قد لا يكون أحدٌ سبق الحكومة اللبنانية على استخدامها في مقاربة الاستحقاقات الدستورية، ألا وهي "ضيق الوقت".
وإذا كان سيناريو تغييب الملفّ عن طاولة مجلس الوزراء، وهو الذي كان يفترض أن يسلك منذ البدء مساراً قانونيًا لا سياسيًا، يؤشّر إلى عدم وجود رغبةٍ حقيقيّة لدى جميع الأفرقاء بإتمام الاستحقاق، الذي "تجاهله" رئيس الحكومة سعد الحريري تمامًا في جلسة مناقشة الحكومة، فإنّ علامات استفهام تُطرَح حول موقف "التيار الوطني الحر" الحقيقيّ من الاستحقاق، في ضوء ما يُحكى عن "تبايناتٍ" في مقاربته.
بين روكز وباسيل
لأنّ "لا وقت للنقاش"، أرجأ مجلس الوزراء النقاش في انتخاباتٍ فرعيّة كان يفترض أن تتمّ من دون العودة إليه منذ فترةٍ طويلة، لولا اعتبار وزير الداخلية نهاد المشنوق قرار إجراء هذه الانتخابات "سياسيًا"، وإصراره على تركه لمجلس الوزراء مجتمعًا، بل ذهاب بعض المقرّبين منه لحدّ القول أنّ توقيعه مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، وهو ما يفترض أن يكون واجبه غير الخاضع للنقاش أصلاً، قد يؤدي لـ"توتير" يعكّر صفوّ "الأجواء التوافقية" السائدة.
لكن، وعلى الرغم من "ضيق الوقت" الذي منع مجلس الوزراء من نقاش الملف، وأرجأه في سيناريو بات مملاً لكثرة تكراره، فإنّ موقفاً صدر بعيد جلسة الحكومة عن رئيس "التيار الوطني الحر" وزير الخارجية جبران باسيل أعلن فيه أنّه طالب "مجدّداً" بإجراء الانتخابات الفرعية احتراماً للدستور وتطبيقاً للقانون وتأميناً لحق الناس في التمثيل، "وحقنا في مقاعد نيابية نربحها"، كما قال. وأتى هذا الموقف بعد كلامٍ مرتفع السقف لمرشح "التيار" المفترض للانتخابات الفرعية المفترضة في كسروان العميد شامل روكز قال فيه "فليتحمّل المسؤولية من يتّخذ قرار إلغاء الانتخابات".
وإذا كان موقفا باسيل وروكز يبدوان "متشابهَين" في مكانٍ ما، فإنّ ما يُحكى في الكواليس عن حقيقة الموقف لا يبدو كذلك، إذ يشير المتابعون إلى أنّ الرجلين عمليًا ليسا متّفقَين، فالعميد روكز يريد الانتخابات، التي ستكون "بطاقة عبوره" الرسمية نحو السياسة، من باب الندوة البرلمانية، فضلاً عن كونه يعتبر أنّ "رمزيّة" المقعد الذي يترشّح عنه، والذي كان يشغله رئيس الجمهورية العماد ميشال عون قبل انتخابه رئيسًا، تعطي الاستحقاق أهمية استثنائية، ولو كانت فترة النيابة بموجبه محدودة زمنيًا. ولذلك، فإنّ روكز يعمل للانتخابات كأنّها حاصلة اليوم قبل الغد، رغم كلّ المؤشّرات التي توحي بعكس ذلك.
في المقابل، تشير الكثير من المُعطيات إلى أنّ الوزير باسيل ليس متحمّسًا في الحقيقة للانتخابات الفرعيّة، ولو قال في العلن عكس ذلك، ولا يرتبط ذلك بما يُحكى عن "تباينات" بينه وبين روكز، بقدر ما يرتبط باعتقاده أنّ الوقت ليس ملائماً لأيّ معركة،علمًا أنّ معلوماتٍ متقاطعةٍ تحدّثت أكثر من مرّة عن "تفاهمٍ ضمني" حصل بين باسيل ورئيس الحكومة سعد الحريري على غضّ الطرف عن هذا الاستحقاق، الذي لا يخفى على أحد أنّ رئيس "تيار المستقبل" يخشاه ولا يريده بأيّ شكلٍ من الأشكال، خشية انعكاسه سلبًا عليه خصوصًا في ضوء "الصراع على الزعامة" في مدينة طرابلس.
لماذا لا يضغط؟
وبعيدًا عن الحكم على النوايا، تُطرَح علامات استفهام جدية حول الموقف الحقيقي لـ"التيار" من الانتخابات الفرعية، خصوصًا أنّ رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، الذي أقسم على حماية الدستور، والذي كان من أشدّ المتحمّسين لإجراء الاستحقاق في بادئ الأمر، تراجع عن هذه الحماسة، "كرمى لعيون" الحريري وباسيل، كما يقول البعض، علمًا أنّه تقدّم باقتراح في جلسة مجلس الوزراء الأخيرة بأن يكون لكلّ نائب "رديف" يحلّ مكانه في حال شغر مركزه لأيّ منصب، وهو اقتراح قد ينفع لتفادي تكرار "المهزلة" الحاصلة على خطّ الانتخابات الفرعية اليوم.
أما موقف الوزير باسيل الأخير الداعي لإجراء الانتخابات الفرعية التزامًا بالدستور والقانون، فيضعه كثيرون في خانة "المزايدات" لا أكثر ولا أقلّ، خصوصًا أنّه أتى بعد موقف العميد شامل روكز وليس قبله، ما أوحى وكأنّه أتى "لرفع العتب" ليس إلا، لا سيّما أنّ كثيرين قرأوا في كلام روكز عن المسؤوليات "رسالة ضمنية" لـ"رفاق الصف" قبل غيرهم، وعلى رأسهم وزير الخارجية، ما دفع باسيل لمحاولة تصويب الأمور بشكلٍ أو بآخر.
ولعلّ ما يعزّز هذه النظرية أو الفرضية هو عدم قيام "التيار الوطني الحر" بأيّ ضغطٍ جدّي وفعلي في سبيل تحويل الأقوال إلى أفعال، فإذا كان وزير الداخلية يحجم كلّ مرّة عن طرح موضوع الانتخابات الفرعية لسببٍ أو لآخر، يمكن لوزير الخارجية أو غيره من "التيار" طرح الموضوع، غير الهامشي، حتى ولو لم يتّسع له الوقت، بل يجب عليه وضع وزير الداخلية أمام مسؤولياته بشكلٍ أو بآخر. وما يمكن لـ"التيار" أن يقوم به، لو كان فعلاً مؤيّداً لإجراء الانتخابات الفرعية، هو الضغط الجدّي بالحدّ الأدنى، تمامًا كما فعل مع استحقاقاتٍ أخرى في السابق، سواء في هذه الحكومة أو قبلها، علمًا أنّه كاد يطيّر حكومات انطلاقاً من هذه الخلفية، كما حصل مثلاً مع التعيينات في الحكومة السابقة، وهو ما كان يترافق مع حملاتٍ إعلاميّة مكثّفة.
إلا أنّ المفارقة في مقاربة "التيار" للاستحقاق الفرعي تبقى أنّ شيئًا من ذلك لم يحصل، فالموضوع مغيَّب عن الإعلام المحسوب عليه، والشارع ليس من الخيارات المطروحة، ولا حتى "المعارضة" من الداخل، بل أكثر من ذلك، فإنّ مجرّد المطالبة بالتصويت داخل مجلس الوزراء لبتّ الأمر، كما كان يطالب "التيار" في كلّ قضيّة يحصل خلافٌ بشأنها، لم يصدر عن أيّ من وزراء "التيار"، مع التشديد دومًا على أنّ استحقاقاً دستورياً وقانونيًا مثل الانتخابات الفرعية لا يفترض أن يكون خاضعًا لأيّ نقاشٍ أو جدال أو تبادل للآراء.
هرطقة واستخفاف...
ينصّ القانون بوضوح على وجوب إجراء الانتخابات الفرعية عند شغور أيّ مقعد نيابي طالما أنّ المهلة المتبقية لولاية المجلس النيابي تزيد عن الستّة أشهر، ولو بيومٍ واحدٍ. رغم ذلك، هناك من المصرّين على احترام القانون من "يجتهد" ليقول أنّ المسألة "لا تحرز" وغير ذلك، مما لا يمكن وضعه سوى في خانة "الهرطقات الدستورية".
لكن، وأبعد من القانون، هناك سياسة "تجاهل" تنتهجها الحكومة، لا تنطوي سوى على استخفاف في الرأي العام. ولعلّ ما حصل في جلسة مجلس النواب لمساءلة الحكومة خير دليلٍ على ذلك، فعلى الرغم من أنّ نائبين على الأقلّ هما بطرس حرب وسامي الجميل طرحا الملف في مداخلتيهما، فإنّ ردّ رئيس الحكومة سعد الحريري على مداخلات النواب قفز فوقها، ولم يشر إليها من قريب أو من بعيد.
إزاء هذا "الاستسهال الفاقع" في مقاربة ملفات دستورية، يرجّح كثيرون عدم طرح ملف الانتخابات الفرعية على طاولة مجلس الوزراء سوى بعد استنفاد كلّ المهل، بل يقترح البعض على وزير الداخلية إصدار توصية بإلغاء الانتخابات من أساسها كونها يمكن، نظرًا لطابعها التنافسي، أن توتّر الأجواء التوافقية في أيّ وقت!.