عدم الإقرار بانتهاء زمن الهيمنة الأحادية، وتضييع فرصة قيادة العالم بدلا من السعي إلى فرض الهيمنة عليه، ادخل الولايات المتحدة الأميركية في مرحلة من التراجع والاضطراب في سياستها الخارجية، وهذا الاضطراب يتجسد أكثر ما يتجسد في هذه المرحلة إثر وصول دونالد ترامب إلى سدة الرئاسة في أميركا على خلفية معركة انتخابية حامية، رمت فيها دوائر القرار في الحزبين الجمهوري والديمقراطي ووسائل الإعلام واستطلاعات الرأي بثقلها لمحاربته والحيلولة دون فوزه دون جدوى، ما شكل مفاجأة في تاريخ الانتخابات الأميركية أن يتمكن مرشح من التغلب على صناع الرؤساء في أميركا.
لقد عكس ذلك انقساما واضحا في الدولة العظمى عبرت عنه نتائج الانتخابات، والتظاهرات الشعبية المحتجة على فوز ترامب، ومن ثم من خلال الصراع المحتدم بين الكونغرس الذي يسيطر عليه الجمهوريون والديمقراطيون من جهة، وبين إدارة الرئيس ترامب من جهة ثانية، بشأن السياسات التي قرر أن ينتهجها ترامب وتشكل تعارضا مع توجهات الحزبين، لاسيما لناحية قراره بالتعاون مع روسيا في الملفات الساخنة وخصوصا في سوريا، والعودة إلى سياسات الحمائية، والتخلي عن سياسات العولمة التي تستفيد منها الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات. هذا الصراع في أميركا ما كان لينشب لو لم تخسر أميركا معركة إعادة تعويم مشروع هيمنتها، وتفقد تربعها على عرش القرار الدولي بعد نحو أكثر من عقدين، اثر انهيار الاتحاد السوفياتي، وظهر ذلك بوضوح في انتهاء هيمنة أميركا على مجلس الأمن حيث لم تعد تتمكن من التفرد أو استصدار القرارات الدولية وفق ما تريد مصالحها وسياساتها في العالم، وبات هناك من يقف ندا لها يستخدم الفيتو ضد القرارات التي تخدم مشاريع الهيمنة الأميركية، وهو ما عبرت عنه الفيتوات الروسية والصينية المتكررة التي منعت صدور مشاريع قرارات أميركية غربية.
لهذا فإن أميركا باتت غارقة في خضم صراع داخلي بين اتجاهين:
اتجاه يرفض الإقرار بانتهاء زمن الهيمنة ولا يريد التكّيف مع الوقائع الدولية الجديدة. ويريد أن يتعامل مع روسيا الدولة الكبرى وكأنها دولة من العالم الثالث، عبر الإصرار على فرض العقوبات الاقتصادية والمالية عليها.
واتجاه يريد التكّيف مع الواقع الدولي المستجد والذي لم يعد يسمح لأميركا بالاستمرار في مواصلة سياسة الهيمنة الأحادية على القرار الدولي، وذلك عبر التعاون مع روسيا بدلاً من إدارة الظهر لها.
وظهر ذلك من خلال إقدام الكونغرس على حشر ترامب في زاوية فرض عقوبات جديدة على روسيا، ليزيد من إذكاء التوتر في العلاقات بين أكبر قوتين نوويتين في العالم، وسط مخاوف الاتحاد الأوروبي من أن تؤثر تلك الخطوة على اقتصاده وهو ما ظهر في رد الفعل الألماني على العقوبات بالقول إنها تؤثر سلبا على ألمانيا.
وفي الوقت الذي أدى فيه نهج العقوبات على خلفية الأزمة الأوكرانية، إلى جعل روسيا تحدث تكّيفاً في اقتصادها على نحو أزال، مع الوقت، الآثار السلبية لمثل هذه العقوبات على روسيا، وباتت العقوبات لا تضر سوى الدول الغربية الحليفة لأميركا، في حين أن روسيا اتجهت إلى تعزيز علاقاتها مع دول أخرى في العالم والاعتماد على تنمية اقتصادها الإنتاجي المحلي بما يجعلها في غنى عن علاقاتها التجارية مع الدول الأوروبية التي أصبحت في ضوء ذلك هي من يحتاج إلى العلاقة الاقتصادية مع روسيا لاسيما لتأمين استمرار تدفق الغاز الروسي إليها لأنها لا تستطيع الاستغناء عنه في ظل عدم القدرة على تأمين بدائل.
ولهذا فان الاتحاد الأوروبي عبر عن قلق بالغ من اتخاذ إجراءات مضادة، إذا طالت العقوبات الأميركية المتوقعة ضد روسيا مصالحه الاقتصادية.
وفي هذا السياق أكدت وثيقة صادرة عن الاتحاد الأوروبي نشرتها صحيفة «فاينانشيال تايمز» البريطانية أن بروكسل قد لا تعترف بالعقوبات الأميركية ضد روسيا على أراضي الاتحاد الأوروبي لأنها تنتهك المصالح الأوروبية.
وحسب الوثائق، فإنه من الممكن أن يطلب الاتحاد الأوروبي من ترامب ضمانات مكتوبة أو علنية بأن العقوبات ضد روسيا لن تؤثر على مصالح الاتحاد الأوروبي، خصوصا وأن هناك خشية أوروبية من أن تطال العقوبات مصالح الشركات الأوروبية المشاركة في مشاريع مشتركة مع روسيا، ولا سيما في مجال الطاقة وبالدرجة الأولى بناء خط الغاز «السيل الشمالي 2» بين روسيا وألمانيا.
ويبدو من الواضح أن قرار الكونغرس جاء في أعقاب قمة هامبورغ بين الرئيسين الروسي فلاديمير بوتين والأميركي دونالد ترامب، وأدى إلى تأزيم العلاقات بين الطرفين، في حين أنها تحتاج إلى التهدئة في وضع يشوبه الاضطراب من الشرق إلى الغرب.
هذا الواقع أربك توجهات ترامب الخارجية وجعل خياراته محدودة، بينما تثير الاتهامات بحدوث تعاون بين حملته الانتخابية وروسيا زوبعة سياسية في واشنطن.
غير أن هذا الصراع الأميركي الداخلي أدى ويؤدي عمليا إلى النتائج التالية:
النتيجة الأولى: اضطراب السياسة الأميركية الخارجية مما يؤدي إلى شلل في هذه السياسة أو على الأقل ارتباكها، وهو ما يصب في مصلحة كل من روسيا والصين.
النتيجة الثانية: زيادة حدة التناقض والخلاف بين الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، واندفاع الاتحاد إلى عدم الالتزام باستراتيجية العقوبات الأميركية، مما يؤدي إلى تعميق التباعد بين الحليفين التاريخيين وبالتالي المزيد من الانعكاسات السلبية على دور الولايات المتحدة عالميا. وهو ما يصب في مصلحة روسيا وبالتالي سقوط نظام العقوبات الأميركي وإلحاقه الضرر بالاقتصاد الأميركي الذي أصبح بذلك المتضرر الوحيد من العقوبات في ظل عدم التزام معظم دول العالم بها.
النتيجة الثالثة: زيادة إضعاف تأثير السياسة الأميركية في العالم، وهذا يقود إلى دفع الكثير من الدول إلى عدم الثقة بالسياسة الأميركية، لاسيما الاتحاد الأوروبي، وبالتالي إعادة تشكيل العلاقات الدولية على أساس المصالح الاقتصادية، الأمر الذي يسرع من اتجاه العالم نحو إقامة نظام دولي جديد يقوم على التعددية القطبية، خصوصا بعدما أصبح هناك اقتناع بعدم قدرة أميركا على تعويم مشروع هيمنتها الأحادي القطب. والعالم يحتاج إلى ملء الفراغ لإنهاء الفوضى العالمية نتيجة سياسة عدم الاستقرار التي أحدثتها السياسة الأميركية.