– لا يمكن عملياً الفصل بين مشهد انهيار داعش في الجرود اللبنانية عمّا جرى في القلمون على الحدود اللبنانية السورية أو عن انهياره في العراق، ومشهد تلعفر المتزامن مع المشهد اللبناني السوري. ولا يمكن وصف مواقف البعض المتمسك بقوة الإصرار على أنّ كلّ ذلك يجري من دون تنسيق، إلا بالمكابرة. كما لا يمكن وصف الإصرار نفسه المتمسك برفض التنسيق إلا بالغباء. فكلّ ما يجري في المنطقة يقول إنّ قلب كلّ هذه الإنجازات هو سقوط مشروع إسقاط سورية، وتسليم الواقفين الكبار وراء حرب الإسقاط من ضفة إلى ضفة. فلولا هذا الفشل الذي مُنيت به الحرب على سورية، بفعل ثبات جيشها وأغلب شعبها وعزيمة رئيسها ومعهم المقاومة وإيران وروسيا، لما أمكن تخيّل تحرير آلاف الكيلومترات الواقعة على حدود لبنان من قبضة التشكيلات الإرهابية التي تمركزت في الجرود اللبنانية، ومن دون هذا التحرير المتواصل من القصيْر إلى قارة ويبرود والنبك ومضايا والزبداني، لما كان ممكناً تحرير الجرود اللبنانية، التي ما كان ممكناً خوض معركتها من دون اكتمال شروطها بتحرير جرود عرسال بداية وتزامن معركتها مع معركة القلمون الغربي من الجانب السوري، وصولاً لنهايتها بتأمين انسحاب مسلحي داعش بموافقة سورية.
– المكابرة هنا لا تلغي الحقائق، والعناد لا يغيّر وجهة الأحداث، فتعافي سورية وعودتها دولة موحّدة بجيشها ورئيسها وتحالفاتها، سياق متسارع، والدول الطبيعية التي تنطلق من حسابات المصالح الصرفة، ترى أنّ مصالحها التي كانت وراء انخراطها في الحرب على سورية، هي ذاتها التي تدعوها للمسارعة بالانقلاب إلى ضفة مقابلة بالاعتراف بأشكال مختلفة بالمتغيّرات والتأقلم معها، على قاعدة الانفتاح على الدولة السورية ورئيسها، والتمهيد لذلك بمواقف من نوع أن لا بديل شرعي للرئيس السوري، كما قال الرئيس الفرنسي، أو لا شروط مسبقة على الحلّ السياسي تتصل بالرئاسة السورية، كما قال وزير خارجيته، أو لا مانع من حلّ سياسي يلحظ منافسة انتخابية متكافئة بين الرئيس السوري ومعارضيه، كما قال وزير خارجية بريطانيا، وكله مسبوق بكلام أميركي معلن عن تفاهم روسي أميركي عنوانه حلّ سياسي، مدخله حكومة موحدة في ظلّ الرئيس السوري، ونهايته انتخابات برلمانية ورئاسية، ووحدهم اللاعبون الصغار ممنوع عليهم التأقلم، لأنهم أوراق تفاوضية بيد اللاعبين الكبار.
– تجهد الدول الإقليمية التي انخرطت في الحرب لتحجز مقعدها على الضفاف الجديدة للمتغيّرات. فتحاول تركيا توظيف دورها في مسار أستانة، وعلاقتها بكلّ من إيران وروسيا، وتستظلّ بالخطر الكردي لتتموضع على ضفة الشراكة بالتسوية السورية، ومثلها تفعل السعودية فتوعز لجيش الإسلام للمشاركة في منطقة التهدئة مع الجيش السوري تحت عنوان قتال داعش والنصرة، ومثلهما تفعل مصر والأردن، فتحجزان مقاعدهما معاً لتكونا جزءاً من مشهد التسويات وتسارعان بوتيرة مختلفة وبحسابات مختلفة تميّز مصر عن الأردن بمكانتها المحبّبة في سورية، لتكونا على غير ضفاف المكابرة والعناد.
– يُفتح السباق للمكابرة أمام اللاعبين الصغار ليكون بينهم كبش المحرقة في نهاية طريق التسويات، ويُرشح للعب هذا الدور فريق الرابع عشر من آذار اللبناني، والقيادات الكردية، والمعارضات السورية، وتُحتاج اللعبة للفوز بها إلى الفوز بلقب الأشدّ غباء وعجزاً عن فهم المتغيّرات. ووحدَها «إسرائيل» تحتاج الكثير من الأغبياء ليكابروا، فيؤنسون وحشتها، لأنها وحدَها تشعر بالقلق الجدّي مما يجري بعدما وجدت نفسها وحيدة على ضفاف المتضرّرين من التسويات المقبلة، وإذا كان مفهوماً قلقُ «إسرائيل» من تنامي قوة حزب الله ومكانة سورية وإيران. فالفريق اللبناني المكابر لا يمكن تفهّم أسباب قلقه وقد اختبر قوة حزب الله بعد التحرير الأول عام 2000 وبعد حرب تموز 2006، واكتشف أنّها قوة لا تصرف عائدات نصرها لمكاسب سياسية أو طائفية، وتوظف مكانتها لدى حلفائها لطيّ صفحة مكابرات وغباء شركائها في الوطن، تحت شعار عفا الله عما مضى.
– قد لا يكون في حال المعارضات السورية مَن يفتح لهم أبواب الصفح كحال الفريق اللبناني المكابر، وتسعى بعض القيادات الكردية ليقوم الروس بدور الوسيط تمهيداً لترتيب العلاقة بالدولة السورية، لكن الفريق اللبناني الذي يملك رصيداً مجانياً للتأقلم ويواصل المكابرة لا يكشف إلا عن غباء بلا دواء وعن مكابرة لحدّ المقامرة، ربّما لأنه ممنوع عليه التفكير والتصرف بحسابات ذاتية ومجبرٌ على التصرف كورقة تفاوض ترفع سعر اللاعبين الأكبر منه لبيع مواقفه والمساومة عليها بعد تمكينهم من ارتهان العلاقة اللبنانية السورية بواسطته وعرضها للتفاوض، أو تسخين التصعيد على المقاومة من خلاله وعرضها للمساومة. ولطالما أحبّ الأميركي أن يقول عمن يسمّون أنفسهم حلفاءه، مَن يشتغلون عندنا نحن نتكفل بإسكاتهم عندما نتفق!