الإنتصار بتحرير وحدات الجيش اللبناني ما تبقى من أراض لُبنانيّة مُحتلّة من قبل الجماعات الإرهابيّة المُسلّحة في الجرود، ترافق مع غصّة كبيرة تمثّلت بالتأكّد بلمس اليد وبأدلّة "الحمض النووي" من معلومات سابقة كانت تحدّثت عن إستشهاد العسكريّين اللبنانيّين الذين كانوا قد وقعوا أسرى بيد تنظيم "داعش" الإرهابي في الثاني من آب من العام 2014. وإذا كان قدر بعض العسكريّين الإستشهاد، فإنّ ما لا يُمكن القبول به أو السكوت عنه، يتمثّل في الظلم الذي تعرّض له العسكريّون الأسرى مرّتين، الأولى بُعيد إعتقالهم والثانية عندما جرى السماح بخروج خاطفيهم وقاتليهم من دون عقاب. فلماذا أخذت الأمور هذا المنحى؟.
لا شكّ أنّ ما حصل قبل أكثر من ثلاث سنوات هو نتيجة تعاطي السُلطة اللبنانيّة في حينه بشكل سيّء جدًا مع واقع منطقة عرسال ككل، حيث جرى ترك البلدة وجرودها عرضة لفلتان أمني كامل منذ إندلاع الأحداث العسكريّة في سوريا إعتبارًا من العام 2011، بحيث دخلتها أعداد ضخمة من اللاجئين السوريّين الذين فرّوا من معارك القلمون، وتواجدت بداخل بعض أحيائها وفي محيطها جماعات مُسلّحة عدّة، بالتزامن مع تعرضها لقصف من جانب الجيش السوري بحجّة إيوائها لمُعارضي النظام، من دون أن يتمّ توفير الحماية المُناسبة لأبنائها أو ضبط الأمن فيها بشكل جدّي. حتى أنّ عمليّة إعتقال قائد ما يُسمّى "لواء فجر الإسلام" الذي كان قد بايع تنظيم "داعش"، عماد أحمد جمعة، في عرسال والتي شكّلت شرارة إندلاع معارك آب 2014، التي إنتهت باستشهاد 14 عسكريًا وسقوط 86 جريحًا وأسر وإختطاف 22 عسكريًا من القوى الأمنيّة الرسميّة اللبنانيّة، كانت غير مدروسة المخاطر ولم تحسب حساب ردّة فعل الجماعات الإرهابيّة. والأخطر مّما سبق تمثّل بالتدخّلات السياسيّة التي حصلت في حينه والتي حالت دون مُسارعة الجيش اللبناني إلى نجدتهم ومُحاولة إنقاذهم عبر قطع الطريق على خروج الإرهابيّين الذين أسروهم، أو على الأقلّ إلى الإنتقام من خاطفيهم بشكل فوري. وقد بقي هذا الجرح الكبير نازفًا على مدى ثلاثة أعوام كاملة وبضعة أسابيع، لأهالي الأسرى الذين وقعوا بقضبة تنظيم "داعش" الإرهابي، بينما إنتهت مُعاناة أهالي الأسرى الذين وقعوا بيد تنظيم "جبهة النصرة" الإرهابيّة في كانون الأوّل من العام 2015 بعد نحو 16 شهرًا من المُفاوضات(1).
وقد شاء القدر أن لا يرى اللبنانيّون نهاية سعيدة لهذا الملف النازف، إن لجهة عودة الرهائن أحياء أو لجهة الإنتقام من إرهابيّي "داعش" على الأقلّ، وذلك لاعتبارات لا علاقة لقيادة الجيش اللبناني الحالية بها، حيث أنّ الخطة التي وضعها قائد الجيش العماد جوزيف عون وأركانه كانت تتكوّن من مراحل عدّة مُتلاحقة تنتهي بالقضاء تمامًا على الإرهابيّين، وليس بترحيلهم. لكنّ المُشكلة أنّ إنتشار إرهابيّي "داعش" في المنطقة الجرديّة الحدوديّة بين سوريا ولبنان جعل هذا الملفّ مُرتبطًا أيضًا بالقرار السوري بشأنه، خاصة وأنّ أيّ طريق برّي لإخراج هؤلاء الإرهابيّين من المنطقة يتطلّب المرور بمناطق خاضعة لسيطرة النظام السوري والقوى الحليفة له. كما أنّ حرص "حزب الله" الذي يُمثّل "رأس الحربة" في الكثير من المعارك التي يخوضها الجيش السوري، على إطلاق أسير له يُدعى يحيى معتوق(2) وعلى إسترجاع عدد من جثامين مُقاتلي "الحزب" كانت بحوزة "داعش"، جعله يدخل في مُفاوضات مع هذا التنظيم الإرهابي إنتهت بالمُوافقة على السماح بانسحابه إلى مدينة "بوكمال" في ريف "دير الزور"، الأمر الذي أفقد الجانب اللبناني ورقة ضغط مُهمّة كانت بيده، بعد أن نجح الجيش اللبناني خلال عمليّته العسكريّة النوعيّة في حشر إرهابيّي التنظيم في بقعة جغرافية ضيّقة جدًا، حيث كان بإمكان الجيش منح هؤلاء الإرهابيّين إنذارًا لساعات عدّة يقضي بالسماح للمدنّيين، أي لعائلاتهم، بالخروج من المنطقة، قبل المُباشرة بقصفهم بشكل كثيف ومُركّز إلى حين إستسلامهم بشكل كامل، خاصة وأنّ قيادة الجيش كانت تملك منذ مدّة معلومات بشأن إستشهاد العسكريّين المخطوفين، وهي بالتالي لا تُعرّض حياة هؤلاء لأي خطر.
وبالتالي، إنّ الكثير من التساؤلات حامت حول أسباب إدارة "حزب الله" عمليّة التفاوض بهذا الشكل، ومن المُنتظر أن يقوم أمين عام "الحزب" السيّد حسن نصر الله بالردّ عليها في تصريح له مساء، خاصة وأنّ أغلبيّة ساحقة من اللبنانيّين كانت تأمل الإنتقام لدماء شُهداء الجيش اللبناني، وكل الشُهداء، بتصفية إرهابيّي "داعش" الذين كانوا مُحاصرين في بقعة جغرافيّة ضيّقة جدًا وساقطة عسكريًا، خاصة وأنّ هذا الإنتقام كان يُمكن أن يتمّ من دون تعريض حياة أي جندي لبناني للخطر، وذلك من خلال القصف المدفعي والصاروخي المُركّز على هذه البقعة المحدودة جغرافيًا.
(1) قضت الصفقة التي تمّت بوساطة قطريّة أن يُفرج لبنان عن 13 سجينًا، في مقابل تسليم "النصرة" جثة الجندي اللبناني الشهيد محمد حميّة، وأن تُطلق 13 أسيرًا كانوا لا يزالون بقبضتها.
(2) وقع في الأسر منذ نحو شهرين، عندما وقعت مجموعته في كمين لإرهابيّي "داعش" في بادية تدمر.