في هذا الزمن الذي يستعيد التصعيد السياسي فيهحيويته الداخلية يحضر إلى الذهن الإمام السيد موسى الصدر الذي آمن بالحوار وأعطى بلده لبنان الذي طالما سمّـاه ’’الوطن الصغير‘‘ المكان الأساسي الذي يرمي إليه الحوار : فـ’’الوطن الصغير الذي تمكـَّـن من حمل مشعل الثقافة والحضارة ردحا طويلا من الدهر يمكن أن يصبح مصدر الشرور والأخطار وأن يقضّ المضاجع‘‘ حسب ما ذهب إليه الإمام المغيَّب.
نحتاج حاليا إلى فكر الإمام الصدر وتجربته للخروج من الإنقسام السياسي والطوائفي الذي يزرع الهواجس والمخاوف والتفجيرات ويحوِّل لبنان إلى ’’واقع استخباري‘‘ متعدد ومتشابك. فالوحدة الوطنية بالنسبة اليه هي الاساس وهي غير ممكنة من دون تغليب ما هو مشترك بين اللبنانيين والاولوية هي لهذا المشترك. فالخطر الخارجي المتمثل بالعدو الاسرائيلي يتوحد حوله اللبنانيون، أما الفتنة الطائفية فتؤدي الى التفكك والتفتيت والانهيار الداخلي ... وعلى هذا الاساس تعاطى مع مقولة الحرب. فالامام الصدر هو داعية الوحدة الوطنية ووسيلته الى ذلك هي الحوار وبدأه مبكراً في صور بالممارسة حيث جعل جمعية البر والاحسان لا تقتصر في نشاطاتها على الطائفة الشيعية ، ’’فصندوقها يدخل فيه الخير من الجميع.. ويدها تمتد لمساعدة الجميع‘‘. والكل يعرف كيف ان الامام موسى الصدر اسقط اوهاماً خاطئة واعتقادات لا اساس لها من بعض اهل صور الشيعة الذين كانوا قاطعوا شراء البوظة من مقهى يملكه مسيحي . فتقصّد الامام الصدر خروجه يوم الجمعة من الجامع وذهب الى المقهى المعين وأكل بوظته امام الجميع ... فأسقط بالممارسة الاوهام والاعتقادات الخاطئة.
كان الامام يعرف تمام المعرفة ان أي تغيير جدّي على المستوى اللبناني يستحيل أن يقتصر على طائفة واحدة او على ثنائية طائفية... فالتغيير عمل وطني ممكن بقاعدة وطنية عريضة اساسها المحرومون في كل الطوائف... وهو كان يسعى الى هؤلاء المحرومين الذين يطمح الى توحيدهم بلغة غير طائفية من خلال ما يجمع بينهم.. وكانت المسألة الاجتماعية عنصراً أساسياً في هذا الطموح كما كان بناء الوطن على قاعدة الدولة القادرة والعادلة والمدنية مدخلاً لكسب النخبة والبورجوازية المتنوّرة والمتضرّرة من مزارع الاقطاع السياسي التي حالت دون أن تبلغ الشهابية السياسية غايتها في تطوير المؤسسات الجامعة. وبهذا المعنى كان الامام يدرك أخطار الطائفية على مشروعه. ولذا كانت مساهمته الأساسية في اطلاق حملة الحوار المسيحي الاسلامي عبر ’’منبر الندوة اللبنانية‘‘ وكانت له محاضرات عدة في كنيسة الكبوشية واليسوعية.. وكان هدف هذه المحاضرات تعميق اللحمة في البنية الاجتماعية العامة والتركيز على ان الدين في جوهره هو واحد غايته بناء الانسان وازالة الحواجز التي نصبتها عوالم مفتعلة يبرأ منها دين الله الحق. وهكذا كان تركيز الامام الصدر على انه ’’عندما نلتقي في الله تكون الاديان واحدة. وخدمة الانسان هي الطريق الى الله وان القاسم المشترك بين المسيحية والاسلام هو الانسان الذي هو هدف الوجود وبداية المجتمع والغاية منه والمحرك للتاريخ.‘‘
طروحات الامام الصدر هذه لاقت تجاوباً من النخبة المسيحية وفي الاوساط الكنسية واعتبرها المطران غريغوار حداد توجهات تلتقي مع ما يطرحه في تنظيم ’’الحركة الاجتماعية‘‘ التي كان قد أسسها... وكانت حوارات بين الاثنين في مطلع الستينات وصلت فقط الى درجة التعاون في مجال الخدمة الاجتماعية. فالامام موسى آثر العمل من خلال اطار اوسع فيه من التنوّع الطائفي ما يسمح بالوصول الى تحديدات جامعة لما هو مشترك بين اللبنانيين. وبالفعل هذه كانت غاية البيان عن الحوار المسيحي الاسلامي الذي صدر في 8 تموز 1965 عن ثماني شخصيات معروفة هي المطران جورج خضر والشيخ صبحي الصالح وفرانسوا دوبريه لاتور ويوسف ابو حلقة وموسى الصدر وحسن صعب ويواكيم مبارك...
والحرص على الوحدة الوطنية كان يدفع الامام موسى الصدر الى إعمال الفكر طويلاً قبل اتخاذ اي خطوة . فعندما طرح مطالب المحرومين كان يهمه مسبقاً معرفة وقعها عند الشيعة وغير الشيعة. وما لا يعرفه الكثيرون ان السنة والموارنة والكاثوليك في البقاع الشمالي تجاوبوا معه قبل الشيعة بسرعة كبيرة ذلك انهم لمسوا ان المطالب الانمائية التي طرحها سواء بالنسبة للسياسة الزراعية او بالنسبة لمشروع العاصي او لبناء المستشفيات والمدارس ومد شبكات المياه والطرق وفتح ابواب وظائف الدولة ... لمسوا ان هذه المطالب تعنيهم قبل غيرهم... ذلك انهم وجدوا في الامام الصدر مرجعية لهم لا تتوفر في المرجعية السياسية ... وهكذا ترجموا تجاوبهم معه بشكل أسرع وأفعل من شيعة البقاع الذين ترددوا بين المرجعية السياسية ومرجعية الامام. وما ينطبق على شيعة البقاع ينطبق على شيعة الجنوب. وبالفعل كسرت بلدة عرسال السنية في البقاع الشمالي اغلاق منطقة البقاع على الامام فكان الاستقبال الاول الحاشد له الذي تلاه أن دير الاحمر المارونية احتفلت بالامام وفتحت له كنائسها وبيوتها.. ومن ثم كرّت السبحة وكان مهرجان المئة الف في مدينة بعلبك. وكل هذه الامور كانت قد تمت قبل سنة من اندلاع الحرب الاهلية حيث فوجئ الامام بان اهالي بلدة القاع الكاثوليكية قد شكلوا لجاناً زراعية جاءت تعلن ولاءها له وتطالبه بمساندتها برد ملكية الأرض للمزارعين الذين اضطروا لرهنها خلال الحرب العالمية الأولى بسبب المجاعة لعائلات سياسية قد تلجأ الى طردهم منها في حال وصلت مياه العاصي الى مزارع القاع... وتجاوب معهم الامام بحيث انه عندما عرض على الاستاذ اسعد جعفر أحد مؤسسي حركة المحرومين مهمة قيادية رفيعة قال له هذا الأخير ’’هذا يعني أنني أتخلى عن ملف القاع‘‘ أجابه الامام ’’لا ملف القاع أهم تتخلى عن المهمة...‘‘
بناء الوحدة الوطنية من جانب الامام موسى الصدر كان يتم من تحت اي من القاعدة وباعتماد مفاهيم بسيطة وبدون تعقيدات أيديولوجية. ومن دون اللجوء الى مقولات الطبقة او الاشتراكية اصطف الى جانبه العمال والمزارعون والحرفيون والبورجوازية الكبيرة التي تضررت من نظام المزارع السياسية والتي التقت مع الامام الصدر حول فكرة تحديث الدولة والادارة وعصرنة الاقتصاد وانماء الارياف. فالامام حاول معالجة ظاهرة أحزمة البؤس التي طوقت بيروت مثل عنق الزجاجة على حد تعبيره ، وردّ هذه الظاهرة الى العلاقة الهشة للدولة بالاطراف حيث ان ’’لبنان الكبير‘‘ بقي فعلياً في حدود نظام المتصرفية مع ضم شكلي للأقضية الاربعة وبحيث ان الدولة تمّ اختصارها في العاصمة بيروت كمركز للنشاط السياسي والاداري والاقتصادي والخدماتي... وهذه المقاربة لعلاقة بيروت بالاطراف يقع على مثلها المراقب والمتابع في فكر الزعيم الصيني ماوتسي تونغ... وهذا ان دلّ على شيء فعلى كون الامام استفاد من تجارب الآخرين ووظّفها حيث يجب لبناء الوحدة الوطنية عبر الاشارة الى عوامل التفكيك وعناصر الخلل البنيوية. وهنا ومن دون شك فان الامام انتج نظرية سياسية لمفهوم الوحدة الوطنية دمج فيه بين معطيات مختلفة بما فيها معطى ’’المتحد الاجتماعي‘‘ عند انطوان سعادة.
ففي احدى المرات التي كان يتم فيها نقاش الوضع داخل الطائفة الشيعية قال لي الامام ينبغي في مطالبنا في مرحلة اولى ان يتوحّد كل الشيعة بحيث نعزل الاقطاع السياسي ... وان يتزامن ذلك مع حركة تغيير في كل الطوائف وعلى مستوى الوطن... ولا يمكن ان يكون التغيير طائفياً ... فالهدف ينبغي ان يكون واضحاً امامنا وهو وحدة الشعب.‘‘
إن النظرية السياسية التي صاغها الإمام حول الوضع اللبناني ارتكزت إلى ’’رؤية استباقية‘‘ وإلى تجربة شخصية غنية وإلى قراءة تغوص في العمق. وما نحتاجه حاليا هو ’’ترجمة هذه النظرية‘‘ في الممارسة خصوصا وأن المشاريع الطوائفية أثبتت أنها لا تبني وطنا وتهدِّم الطوائف وتمزق النسيج الإجتماعي والوطني وتفلت الغرائز. واستنادا إلى فكر الإمام الصدر الرؤيوي ثمة حاجة إلى تيار أهلي يضم النخب الفكرية والجمعيات والنوادي والمجلس النسائي ونقابات المحامين والصيادلة والأطباء والمهندسين والطلاب وأساتذة الجامعات لتشكيل قوى ضاغطة على المجتمع السياسي باتجاه استعادة بناء الوطن على قاعدة الدولة القادرة والعادلة والمدنية. كما أنه على صعيد رجال الدين من مختلف الطوائف إعادة إحياء ندوة الحوار المسيحي – الإسلامي.
أدرك الإمام الصدر أهمية الصيغة اللبنانية التي تعني فيما تعنيه ’’التمسك بوحدة لبنان وانسجامه مع المنطقة وصيانة كونه أمانة للحضارة العالمية‘‘... أهميتها انها نموذج لحوار الحضارات الذي يمكن تقديمه كبديل لنظرية ’’صراع الحضارات‘‘ التي روّج لها بعد أحداث الحادي عشر من أيلول والتي تركّز على الصراع بين الحضارتين الغربية والاسلامية.
في نظرية الإمام موسى الصدر ثمة ما يضيء لجهة إسقاط لغة التحدي في العلاقات بين الطوائف. وهذه في ’’ترجمتها الحالية‘‘ تعني ضرورة المصارحة والمناقشة واللقاء وإدارة الخلاف بين المرجعيات الروحية والسياسية على اختلافها. وأيضا في ترجمة هذه النظرية هناك دور أساسي للإعلام في إعادة تصويب الأداء السياسي وفي تغليب المشترك بين اللبنانيين وفي خطاب هادئ وفي استبعاد الطوائفيين عن الشاشات والترويج لخطابهم.
الخروج مما نحن فيه يفترض ترجمة النظرية السياسية للإمام الصدر في واقعنا الحالي بفتح حوار شيعي – سني يرتكز إلى نص إسلامي منفتخ وعقلاني. هذا أولا.
وثانيا : اعتبار الدولة المدنية هي المرجعية الفعلية في مواجهة عواصف التفتيت والفكر الديني المتطرف.
وثالثا : دعم الجيش وإخراجه من دائرة التجاذبات السياسية والطوائفية.
ورابعا : كون الرئيس نبيه بري هو زعامة وطنية جامعة ومرجعية مركزية يتقاطع فيها الإعتدال اللبناني وكونه يطرح فكرة الدولة المدنية والعامل من زاوية العلاقات الدولية على تحصين لبنان من زلازل المنطقة. كونه كذلك فهو المؤهل إلى ترجمة النظرية السياسية للإمام موسى الصدر بخبرته الشخصية وبتوظيفه لحالة القلق العامة الشعبية في كل الطوائف وكل النخب لحالة نهوض وطني تتغلب فيه فكرة الوحدة الوطنية التي كانت العنصر الأساس الذي يتحكم بفكرة الإمام.
وخامسا : استثمار التقاطع بين فكرة الدولة المدنية عند الإمام الصدر وبين تطلعات الشباب إلى عمل إصلاحي. وهذا التقاطع يتمثل بمواجهة علة الطائفية ونظامها السياسي وبالمسألة الإجتماعية وبتبريد الرؤوس الحامية وإدارة الخلافات بالحوار.
أخيرا السلم الأهلي ووقف الحرب كانا وراء فكرة اعتصام الإمام الصدر في مسجد الأمين اعتراضا على القتل والإنقسام وإقحام البلد في المجهول. ومثال الإعتصام في حالتنا الراهنة يعني ضرورة وقف الإنهيار وضرورة التلاقي قبل فوات الأوان.
باختصار ما أحوجنا في ظل ما يحصل من خلافات حول النص الديني إلى استنتاج الإمام المغيب ’’عندما نلتقي في الله تكون الاديان واحدة‘‘.