انتهت عمليتا "فجر الجرود" و"أن عدتم عدنا" اللتان أعلنتا لتطهير الحدود اللبنانية السورية من داعش، على ضفتي الحدود، وذلك باستسلام ارهابيي داعش، واعلان عن نتيجة التفاوض بين داعش وحزب الله، الذي أمّن بالتوافق مع الدولة السورية خروج الارهابيين من القلمون الى دير الزور.
ومع اعلان الاتفاق وكشف مصير العسكريين اللبنانيين المخطوفين، انقسم اللبنانيون بين مؤيد ومعترض، وعلت الأصوات المستنكرة لهذا الاتفاق، وضجّت الساحة السياسية والاعلامية بأصوات تطالب باستمرار القتال وإفناء مقاتلي داعش في الجرود، وعدم السماح لهم بالافلات من العقاب، خاصة بعدما تبين أن التنظيم الارهابي كان قد أعدم عسكريي الجيش اللبناني ودفنهم في القلمون السورية.
وينقسم أصحاب الاعتراض فعليًا الى فئتين:
فئة أولى تريد تفويت أي فرصة على حزب الله لاعلان انتصار ما، وتسعى دائمًا لتجيير أي عمل يقوم به لصالح ايران والنظام السوري، وهذه الفئة تطالب الجيش اللبناني اليوم باستكمال المعركة والانتقام لأرواح شهدائه العسكريين، علمًا أن هؤلاء هم أنفسهم الذين طالبوا بمحاكمة الجيش واتهموه بارتكاب الجرائم، عندما حاول التمهيد للقضاء على الارهابيين بحملة استباقية في مخيمات عرسال التي كانت تأوي ارهابيي جبهة النصرة وغيرهم من الارهابيين، كما دلّت المعارك الأخيرة.
فئة ثانية من المواطنين اللبنانين والسوريين الغيورين الذين هالهم أن يخرج الارهابيون بهذه الطريقة بدون عقاب، واعتبروا أن خروج هؤلاء من الجرود الى مناطق سيطرة داعش في دير الزور، إنما يبدو كمكافأة للارهابيين على احتلالهم وقتلهم المدنيين والعسكريين، إضافة الى ان إفلاتهم من العقاب يعتبر بمثابة خيانة لدماء الشهداء.
بالنسبة للفئة الأولى التي لها حساباتها السياسية التي تريد تصفيتها مع المقاومة، فكل كلام منطقي لا يبدو أنها ينفع معها، إذ ينطبق عليهم المثل "عنزة ولو طارت".
أما بالنسبة للفئة الثانية، فالمنطق والعلم يقولان ما يلي:
أولاً: يقول العلم أن الحرب ليست هدف بحد ذاتها إنما هي وسيلة لتحقيق أهداف سياسية. لذا، عندما خرج الجيش اللبناني الى معركة "فجر الجرود"، كانت أهداف تلك الحرب، تطهير الأراضي اللبنانية من الارهابيين، وكشف مصير العسكريين اللبنانيين واسترجاعهم. أما الحرب التي خاضها حزب الله والجيش السوري في الجهة المقابلة من الحدود فكان هدفها طرد الارهابيين من الاراضي السورية المحاذية للبنان. وبهذا المعنى، إن أهداف الحرب التي خاضها الجيش اللبناني، والتي خاضها في الجهة المقابلة حزب الله والجيش السوري قد تحققت بالكامل، وهذا الأهم.
ثانيًا: في العلم أيضًا، أن صاحب القرار العقلاني يقوم بدراسة المعطيات ويعمد الى اتخاذ القرار الأقل كلفة والأكثر ربحًا - بناء على المعطيات المتوافرة لديه. ومن هنا، فإن المعركة في الجرود لم تكن نزهة، علمًا أن الجيش اللبناني كان قد قسّم عملية فجر الجرود الى مراحل، وكانت المرحلة الأخيرة أي مساحة 20 كلم متبقية، تعتبر الأصعب على الاطلاق إذ أن داعش مارست القتال التراجعي، وبما أن المساحة المتبقية هي الأخيرة المتبقية لديهم، فإن الكلفة البشرية للمعركة الأخيرة كانت ستكون كبيرة جدًا، لأن الداعشي يقاتل وهو يعلم أنه ميت، ولأن الطبيعة الجغرافية للجرود تسمح لهم بالتخفي والقنص والاختباء في المغاور ما يصعّب على المهاجم مهمته ويكبده خسائر كبيرة.
ثالثًا؛ بالنسبة للمقاومة والجيش السوري، إن رحيل الارهابيين من الحدود اللبنانية السورية لا يعني ان المعركة معهم انتهت، بل تأجلت الى ظروف ميدانية مختلفة، أي أن قتال هؤلاء والقضاء عليهم قد تأجل الى وقت لاحق والى ظروف ميدانية قد تكون أفضل.
رابعًا، بعكس ما يشيع البعض أن الرابح من خروج داعش هو النظام السوري، إن الرابح الأول من خروجهم هو لبنان الذي أنهى المعركة بأقل خسائر بشرية ممكنة، علمًا أن الدولة السورية استفادت أيضًا من التسوية ولكن بشكل محدود، فهي ربحت انهاء ملف الحدود اللبنانية السورية للتفرغ لملف الحدود مع الاردن ثم العراق وتركيا ، وأمّنت العاصمة دمشق، ولكنها لم تنهِ معركتها معهم بل أجلّتها الى وقت لاحق.
في المحصلة، انتصر لبنان بتحرير أرضه من الارهابيين.. وتبقى المشكلة أن جزءًا من اللبنانيين هم الذين سهّلوا وتواطؤوا لإدخال هؤلاء المسلحين، والمشكلة الأكبر، أن هؤلاء أنفسهم هم الذين يريدون الاستمرار في المعارك حتى إبادة المقاتلين ذاتهم الذين تحوّلوا من صفة "الثوار" الى "داعش".