يبدو الانقسام الحاصل اليوم على نتائج معركة جرود القاع ورأس بعلبك، والمستمر بعد أيام على انجلاء غبار المعركة، مستغرباً، إذ إن السجالات العبثيّة على خطه حتى حول مبدأ الانتصار بحد ذاته ومفهومه العام لم تشهدها معركة جرود عرسال نفسها، وهي التي خاضها حزب الله لا الجيش اللبناني، والتي حصدت "شبه إجماع" على أهمّيتها الاستراتيجيّة، الأمر الذي لم تعكّره "تحفّظات" البعض، التي بقيت خجولة نسبيًا، على دور الحزب فيها.
وإذا كان فتح دفاتر الماضي معطوفاً على تبادل الاتهامات وتقاذف كرة المسؤولية عما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه، كلها عوامل ساهمت في تأجيج الخلافات لتوظيفها بما يخدم المصلحة السياسية لكلّ فريقٍ، فإن كثيرين يربطون الأمر بشكل مباشر بزيارة الوزير السعودي ثامر السبهان الأخيرة إلى بيروت وما انطوت عليه من "أمر عمليات" وُزّع على الحلفاء والاصدقاء، سرعان ما تُرجِم على أرض الواقع، ولو على حساب الاعتراف بالانتصار الذي حقّقه الجيش، خشية توظيفه من قبل "حزب الله"...
استراتيجية قديمة جديدة...
في عزّ الانقسام الإقليمي، لم يكن خطابٌ للأمين العام لـ"حزب الله" السيد حسن نصرالله يمرّ إلا وتعقبه بشكلٍ فوري لا يتخطّى الساعات المعدودة ردودٌ بالجملة، ولا سيما من رئيس تيار "المستقبل" سعد الحريري ورئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع، الذي يذكر اللبنانيون جيّداً مؤتمراته الصحافية المطوّلة والمخصّصة حصرًا للردّ على المواقف التي يطلقها السيد نصرالله.
إلا أنّ هذه العادة، التي درج عليها الحريري وجعجع لفترةٍ طويلةٍ، غابت عن المشهد السياسي في الآونة الأخيرة، وخصوصًا بعد انطلاقة العهد الجديد، من خلال انتخاب العماد ميشال عون رئيسًا للجمهورية وتسمية سعد الحريري رئيسًا للحكومة، بموجب ما قيل أنّها تسوية إقليمية ودولية، حضرت في حيثيّاتها كلّ من السعودية وإيران بشكلٍ أو بآخر، ما انعكس تقاربًا غير مُعلن بين ألدّ الخصوم، بمن فيهم الحريري وجعجع من جهة، و"حزب الله" من خلال أصدقائه وحلفائه من جهةٍ ثانية.
هذا التطوّر في العلاقات والاستراتيجيات لم تشذ عنه حتى معركة جرود عرسال الأخيرة التي خاضها "حزب الله"، إذ لم يُرصَد أيّ استنفارٍ لفريقي الحريري وجعجع في مواجهتها، بل إنّ جعجع بدا في الأيام الأولى للمعركة داعمًا للحزب ومؤازراً له في المعارك التي يخوضها، والتي تشكّل مصلحة لبنانية خالصة، بمُعزَلٍ عن "الأجندة" التي يتبعها في سبيل ذلك، في حين أنّ الحريري لم يتصدَّ للحزب سوى بعد أيام من نشوب المعركة، الأمر الذي لم يعتبره كثيرون مبدئيًا بقدر ما كان من باب التصدّي للمزايدات التي بدأت تحاصره من كلّ حدبٍ وصوب، ولا سيما من جانب وزير العدل السابق اللواء أشرف ريفي، "المتمرّد" على "الشيخ سعد".
لكنّ الأمر اختلف رأسًا على عقب بعد زيارة وزير الدولة السعودي لشؤون الخليج العربي ثامر السبهان الأخيرة إلى بيروت، إذ برزت مؤشرات عديدة بعد هذه الزيارة، عكست في جانبٍ منها تغيّرًا كبيرًا في المقاربات، بحيث عادت استراتيجية الردّ الفوريّ على السيد نصرالله لتتصدّر المشهد، وهو ما برز بوضوح بعد خطابه الأخير الذي أعلن فيه اكتمال "التحرير الثاني"، إذ لم يتأخّر كلّ من الحريري وجعجع بالتصدّي له، كلٌ على طريقته، في عملية بدت أشبه بالاستنفار غير المعلن.
تنظيم الخلافات؟
وإذا كان عنوان هذا الاستنفار الطبيعي والبديهي هو منع مصادرة "حزب الله" لانتصار الجرود، بعدما سبق الدولة اللبنانية في احتكار هذا الإعلان برأي خصومه، وكذلك رفض محاكمة حكومة تمام سلام، التي بدأ البعض يلمس مؤشّراتها، فإنّه لا يبدو معزولاً عن الزيارة السعودية برأي كثيرين، خصوصًا أنّه ترافق مع مؤشرات أخرى تصبّ في الخانة نفسها، ولا سيما اعتذار بعض الشخصيات، ومن بينها رئيس الحكومة الأسبق نجيب ميقاتي ورئيس حزب "الاتحاد" الوزير السابق عبد الرحيم مراد، عن حضور لقاء الأحزاب والشخصيات الوطنية مع نائب وزير الخارجية الإيراني حسين جابري أنصاري، خلال زيارة الأخير إلى لبنان، وذلك لعدم إغضاب السعودية في مكانٍ ما.
ولعلّ ما يعزّز فرضيّة أنّ استنفار اصدقاء السعودية لم يأت عفوياً، يكمن في المعلومات التي تمّ تسريبها بعيد الزيارة، ومفادها أنّ الوزير السبهان أبلغ كل من من التقاهم في زيارته الأخيرة، وجلّهم يدورون للمفارقة في فلكٍ واحدٍ، بعدما استثني حتى عن جدول زياراته كلّ من رئيس الجمهورية العماد ميشال عون ورئيس المجلس النيابي نبيه بري، ضرورة تنظيم خلافاتهم قبل موسم الانتخابات، لتفويت الفرصة على "حزب الله" لتحقيق ما يصبو إليه من أكثريةٍ نيابيّةٍ لا توفّر غطاءً لعمليّاته فحسب، بل تجعله يتحكّم بالشاردة والواردة في الداخل.
وعلى الرغم من مواصلة السعودية لسياستها الانفتاحية على مختلف الفرقاء على الساحة السنية، فإنّ المعلومات تشير إلى أنّ الوزير السعودي أكّد في مجمل لقاءاته ضرورة الالتفاف حول الحريري، بوصفه المرجعية، وذلك لوضع حدٍ لسياسة التنافس بين الأقطاب السنّة أنفسهم، في مواجهة محاولات "حزب الله" إبعاده عن الصورة بشكلٍ أو بآخر، علمًا أنّ كثيرين بدأوا يتحدّثون عن أنّ الانتخابات المقبلة قد تطيح بالحريري من رئاسة الحكومة إذا ما أخفق في حصد النتائج الملائمة، وهو ما ليس مستبعدًا بالنظر لواقعه الشعبي غير المبشّر.
وقد يكون تراجع السجالات السنية السنية من "الثمار الأولى" للتمنّيات السعوديّة، وخصوصًا على "جبهة" الحريري-ميقاتي، فبعدما شهدت هذه الجبهة سجالاً عالي النبرة بين الرجلين، رُصِد هدوءٌ نسبيّ، بدأت ترجمته في جلسة مناقشة الحكومة، التي أتت فيها مداخلة ميقاتي "ملطّفة"، وتوّج في انضمام ميقاتي إلى المدافعين عن رئيس الحكومة الأسبق تمام سلام، ومن خلفه الحريري، في وجه "الحملة" التي شُنّت عليه على خلفيّة قضية العسكريين المختطفين. ويضع المتابعون في السياق نفسه انسحاب أحد مستشاري اللواء أشرف ريفي، الدكتور عمر الشامي، من فريق عمله وانضمامه إلى فريق الحريري، علمًا أنّ الشامي حرص في بيان "الانشقاق" عن ريفي على إعلان دعمه السعودية، بما يشبه "المبايعة".
الانتخابات أولاً وأخيرًا...
عمليًا، يمكن القول أنّ "البازار الانتخابي" انطلق، ولو أوحت السجالات الظاهرية بغير ذلك، ولو لم تكن الانتخابات نفسها محسومة، وسط شكوكٍ بنوايا الطبقة السياسية لجهة إجرائها في الوقت المحدّد.
صحيح أنّ "التحالفات" لا تزال غامضة، بفعل "ضبابية" القانون الانتخابي، ولكنّ الأكيد أنّ كلّ فريقٍ بدأ يرسم "الخطط" للانتخابات المقبلة، وكلٌ يريد "الإطاحة" بخصمه، بشكلٍ أو بآخر. أما النتيجة، فهي أنّ كلّ ما يحصل على الساحة، لا يُوظَّف إلا انتخابيًا، ونقطة على السطر...