ما أن أُنجز النصر والتحرير الثاني بدحر الإرهابيّين التكفيريّين عن الجرود اللبنانية السورية، بفضل التنسيق والتكامل بين الجيش الوطنيّ اللبنانيّ والمقاومة والجيش العربيّ السوريّ وبدعم شعبيّ واسع، حتى سارعت قوى 14 آذار إلى تنظيم حملة سياسيّة وإعلاميّة مركّزة لحرف الأنظار عن هذا النصر الجديد، والعمل على الحدّ من قيمته ونتائجه الهامّة التي زادت من أهميّة ودور المقاومة في الدفاع عن لبنان وتحرير أراضيه من الإرهابيّين، وإزالة خطرهم الذي هدّد أمن واستقرار وحياة اللبنانيّين على مدى سنوات.
توسّلت هذه الحملة طريقة خبيثة للتأثير على حجم الالتفاف الوطنيّ خلف الجيش والمقاومة في عمليّتَيْ تحرير الجرود، ومحاولة إثارة الفتنة بين الجيش والمقاومة من جهة، وبين الشعب والمقاومة من جهةٍ ثانية، وتعكير أجواء عودة الدفء إلى العلاقات السوريّة اللبنانيّة من جهة ثالثة، وذلك من خلال التشكيك بنزاهة المقاومة وتضحيات مجاهديها والقول إنّ المقاومة ما كان يجب أن تفاوض لإخراج إرهابيّي «داعش» من الجرود وإرسالهم إلى دير الزور، وكان يجب أن تقضي عليهم، أو أخذهم أسرى ومعرفة مصير العسكريّين ممّن استسلم من «داعش»، وأنّ تأكيد السيد حسن نصرالله على التنسيق في المعركة بين الجيش اللبناني وحزب الله والجيش السوريّ ألحق الضرر والأذى بالجيش اللبناني داخلياً وخارجياً، وأنّ العديد من الدول التي تدعم الجيش سوف تعمد إلى وقف دعمها في حال تبيّن أنّه ينسّق مع حزب الله والجيش السوريّ.
لكن أيّ مدقّق بشكلٍ موضوعيّ في مثل هذا الكلام، تتّضح له الحقائق التالية…
الحقيقة الأولى: إنّ التشكيك بدور ونزاهة ما قامت وتقوم به المقاومة من تصدٍّ ومحاربة للإرهاب التكفيري الـ»داعشيّ» والقاعديّ، إنّما يسقط أمام التضحيات الكبيرة التي قدّمتها المقاومة منذ سنوات وحتى اليوم، والتي أدّت إلى درء وإبعاد خطر الإرهاب عن لبنان واللبنانيين. ولولا هذه التضحيات لكان الإرهاب الذي احتلّ الجرود اللبنانيّة قد تمدّد وسيطر على العديد من المناطق، وأدّى إلى ارتكاب مجازر وحشيّة ضدّ المواطنين وتهجيرهم على غرار ما حصل في العديد من المناطق العراقيّة والسوريّة.
الحقيقة الثانية: إنّ المقاومة عندما قامت بالتنسيق مع الجيش اللبنانيّ والجيش السوريّ لتحرير الجرود اللبنانيّة والسوريّة، كانت تسعى إلى تحقيق هذا الهدف بوساطة الحسم العسكري، أمّا التفاوض فكان على استسلام عناصر «جبهة النصرة» أولاً ومن ثمّ عناصر «داعش»، وهو ما حصل، لكن لم يكن ذلك بلا مقابل، بل حقّقت المقاومة الكثير من المكاسب المهمّة التي ما كانت لتتحقّق لو لم يفتح الباب أمام استسلام الإرهابيّين، ومن ابرز هذه المكاسب:
1ـ إطلاق سراح أسرى للمقاومة واستعادة جثامين شهداء كانوا لدى «النصرة» و«داعش».
2ـ الكشف عن مصير العسكريّين المختطفين.
3ـ تجنيب المقاومة والجيش اللبناني معركة حسم قاسية، كانت ستؤدّي في النهاية إلى القضاء على «النصرة» و«داعش»، لكنّها كانت أيضاً ستؤدّي إلى وقوع المزيد من الشهداء والجرحى.
4ـ تجنّب إطالة أمد المعركة ومضاعفاتها بسبب وجود مدنيّين في مناطق سيطرة «النصرة» و«داعش»، وسعي وحرص المقاومة والجيش لتجنّب حصول ذلك. ولو جرى رفض التفاوض واستمرّ القتال، لكانت النتيجة وقوع المزيد من الخسائر واحتمال سقوط ضحايا وسط المدنيّين، واستخدم ذلك وسيلة للتحريض على المقاومة واتّهامها بارتكاب مجزرة بحقّهم، وفي النهاية لن تنتهي المسألة من دون تفاوض بسبب استخدام الإرهابّيين ورقة المدنيّين.
ولهذا، فإنّ النتيجة التي انتهت إليها معركة تحرير الجرود كانت بكلّ المقاييس العسكريّة نتيجة جيدة جداً باعتراف الأعداء قبل الأصدقاء، لأنّها نجحت وفي فترة قصيرة في إنجاز المهمّة وبأقلّ الخسائر.
الحقيقة الثالثة: إنّ من يسعون اليوم إلى محاولة التعمية على هذا النصر والتحرير الثاني، والحدّ من قيمته الوطنيّة عبر أخذ اللبنانيّين إلى سِجال ونقاش حول مدى جدوى التفاوض، مطعون في مصداقيّتهم ووطنيّتهم أصلاً، فهم بالأصل يقفون ضدّ المقاومة، وتواطأوا ضدّها بالعلن خلال الحرب الصهيونيّة الأميركيّة على لبنان في تموز عام 2006، وتمنّوا وسعوا لأن تنجح «إسرائيل» في القضاء عليها وسحقها. لكن خاب أملهم وانتصرت المقاومة انتصاراً مدوّياً، وهؤلاء هم من دعم عناصر «النصرة» و«داعش» ومكّنهم من السيطرة على عرسال والجرود، وقدّم لهم الدَّعم في السنوات الأولى للحرب الإرهابيّة على سورية تحت زعم أنّهم ثوّار ومناضلون في سبيل الحرية. كما أنّ قيادات وقوى 14 آذار استنفرت وقامت بزيارات منظّمة إلى بلدة عرسال، ناكرةً أن يكون هناك أيّ وجود لتنظيم القاعدة، وهي لم تتوانَ عن وضع العراقيل لمنع الجيش من تحرير العسكريّين عندما جرى اختطافهم وكانوا لا يزالون في منزل المدعوّ أبو طاقية في عرسال، قبل أن يتمّ نقلهم إلى الجرود.
وهؤلاء الإرهابيّون الذين جرى تمكينهم من خطف العسكريّين وذبحهم، هم الذين أطلقوا القذائف الصاروخيّة على البلدات البقاعيّة ونفّذوا التفجيرات والهجمات الإرهابيّة في القاع والهرمل.
الحقيقة الرابعة: إنّ قوى 14 آذار لم تكن تريد هزيمة الإرهابيّين أصلاً، فهي كانت قد دعمتهم وعقدت الرهان عليهم لإسقاط الدولة الوطنيّة السوريّة المقاومة وتغيير موازين القوى في المنطقة لمصلحة المشروع الأميركي «الشرق أوسطي» الجديد، والاستقواء بهذه الموازين للعودة إلى استئناف الحرب ضدّ المقاومة في لبنان والعمل على نزع سلاحها بعد أن تكون قد فقدت ظهيرها السوري، وصولاً إلى فرض هيمنتها الكاملة على السّلطة وتمكين أميركا من إخضاع لبنان لوصايتها النهائيّة.
لكن هذه الرهانات سقطت، وتبيّن أنّ سورية باتت قاب قوسين من تحقيق النصر على الإرهاب، وأنّ الرئيس العربي المقاوم بشار الأسد انتصر، وأنّ تحرير الجرود قد عزّز معادلة الشعب والجيش والمقاومة وباتت معادلة ذهبيّة رباعيّة بعد التنسيق مع الجيش السوريّ في تحريرها، وسقط مخطّط عزل لبنان عن سورية وتحويله إلى منصّة للتآمر عليها. وساد مناخ وطنيّ عام في لبنان، مناصر للجيش والمقاومة في هذه المعركة، أدّى إلى عزل قوى 14 آذار وأجبرها في البداية على تأييد العملية، وحاولت هذه القوى أن تظهر بمظهر من يدعم الجيش للقضاء على الإرهابيّين، لكنّها بعد إنجاز التحرير أدركت بأنّ ما حصل شكّل هزيمة لها ولرهاناتها، ولهذا سارعت إلى تنظيم حملتها علّها تطوّق النصر الجديد وتحدّ من نتائجه الوطنيّة الهامّة، ممعنة بذلك في مواصلة دفن رأسها في الرمال كما النعامة، في محاولة لعدم الإقرار بفشل رهاناتها والعودة عن الاستمرار في سياساتها الخاسرة، وهي على ما يبدو مصرّة بأن تكون آخر من يسلّم بانتصار سورية ومحور المقاومة وبالمعادلات التي أرساها في المنطقة ولبنان، بعد أن تكون أميركا والدول الغربيّة قد سبقتها إلى هذا الاعتراف والتسليم، وهو ما بدأت به بالفعل من خلال اعترافات السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد بانتصار الرئيس الأسد وبأنّ اللعبة انتهت، وإقرار الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بأنّ الرئيس الأسد هو الرئيس الشرعيّ الوحيد، وتكيّف أميركا مع موازين القوى في سورية وإعلانها التوقّف عن مواصلة مدّ الجماعات الإرهابيّة الموالية لها بالسلاح، ودعم اتفاق مناطق خفض التوتّر.