كان صديقي الذي يستعدّ للخدمة الكهنوتية في الإكليريكية، مُغرماً بأحد رؤساء الأحزاب اللبنانيةّ لحدود العبادة، شأنه شأن المُحازبين العابدين في بلدي. وكان كلّما التقيته يَصول ويجول في فكر هذا الرئيس رغبةً منه في جعلي من المشايعين. وفي كلِّ مرّةٍ كان يفعل، كنتُ أتساءل بيني وبين نفسي، فيما إذا كان هذا الصديق وفياً لتعاليم السيد المسيح الذي يتهيّأ لخدمته، أمانته لتعاليم وفكر رئيس الحزب!. وفي مرّةٍ من المرات، وبعض أن طفح بي الكَيل، بادرته قائلاً: "أعتقد بأنك لو تعمل ليسوع المسيح عَمَلَكَ للحزب، لَكُنّا بألف ألف خير. إعمَل عملَك في خدمة مَن تؤمن به وتستعد لتمثيله في وسط الناس، أو أترك الإكليريكية واذهب وانخرط في الحزب الذي تُحبّ واعمل من خلاله على خدمة الخير العامّ، ولكن أن تعمل للحزب وأنت كاهن، أمرٌ لا يصحُّ"!.
ولا أعتقد أنَّ في ما قلتُه مذمّة أو انتقاصاً من عمل الأحزاب، ولكن باعتقادي أنَّ على الإنسان المتصالح مع نفسه، أن ينتمي إلى حيثُ يكون قلبه، فحيثُ يكون القلب يكون الحُبّ الحقيقيّ ويكون العمل الناجح، وفي غير ذلك كذبٌ وتملُّق، ولا يصحُّ برجل الدّين أن يكون كاذباً ومُتملِقاً، ينمتي إلى مؤسّسة ويعمل في الوقت عينه، من أجل أُخرى.
والمُفارقة أنّني التقيت في حياتي، ولا زلت إلى الآن، برجال دينٍ حزبيين أكثر من رئيس الحزب نفسه، لا بل أكثر من المنتمين إلى الحزب أنفسهم! يُغالون بانتمائهم وأمانتهم ومحبّتهم وحماسهم وردود فعلهم وكلامهم وانبطاحهم أمام الحزب ورئيسه، ولَو على حساب الكرامة الكهنوتية، ويخلطون ما بين العقيدة والعقيدة، فيُبشّرون بما تعتقد به أحزابهم لا بما تعتقد به الكنيسة المؤتمنين على تعاليمها. للأسف، هؤلاء نَسُوا ما هُم وما يُمثّلون ومَن يُمثّلون، وما يُمكن أن ينتُج عن سلوكياتهم الخارجة عن أصول المحبّة الإنجيليّة التي كرّسوا أنفسهم لخدمتها، من تداعياتٍ خطيرة ومُقلقة قد تنقلِّبُ شرّاً على إيمان وشهادةِ مَن يَرعون، لا بل على جسم الكنيسة كلّه، لا بل على المُجتمع المكوّن من شرائح مختلفة ومتمايزة، وفي هذا سقوطٌ وخيانة، إذ يجدربمَن يخدم الله أن يُطيعُ الله ولا أحدَ سواه، وأن يقود الناس إلى الله، وأن يكون أداة الله للمصالحة في العالم.
ولتذكير مَن نَسيَ من رجال الدّين العابدين لقيصر أقول: نحن رجال الله، إئتُمِنّا على خِدمة المُصالحة (أف518)،ولا يُمكن لرجال الله أن يُغالوا في شيء، إلاَّ في محبّتهم للمسيح يسوع، الذي جعل نفسه خادماً للكلِّ ليربح الكُلّ. لا حجّة لنا في أن نكون لأحد من دون أن نكون للآخر، ولا حجّة لنا بالتالي في أن نكون مع أحدٍ ضدَّ أحد، ولا حجّة لنا في أن نُزَكيّ أحداً على حساب أحدٍ لئلاَّ نكون عامل تفرقة ونحنُ في الأساس عامل رَبط. بل نُزَكّي الحقّ أينما كان وبغضّ النظر عَمّن يصدر، محتفظين برأينا الخاص لأنفسنا أمام المسيح (روم1422)، لأنَّ مَن يخدم الجماعة باسم المسيح، لا يرتأي رأياً آخر غير المسيح يسوع؛ فإن كُنّا للمسيح، وإن كان المسيح للكُلّ ومن أجل الكُلّ، فنحنُ أيضاً للكلّ ومن أجل الكُلّ.