«إن حشر الناس في الزاوية الأخيرة لم يكن صحيحاً، ففي هذه الحالات يمكن أن تكبر أسنانهم وأظافرهم».
(ستيفن كراين «ذا ريد بادج أوف كوريدج» 1895، نيويورك)
تحمّس عدد كبير من اللبنانيين لتغيير نظام الحكم في سوريا منذ وقوع الاضطرابات في مختلف المحافظات السورية، وزادت حماسة البعض مع تدفق السلاح الى الداخل السوري عبر الحدود البرية، كما شنّت بعض وسائل الاعلام اللبنانية حرباً نفسية استهدفت بشكل عنيف الدولة والجيش السوريين وكل من يقف معهما.
وقد تعود خلفية هذه الحماسة الكبيرة الى عام 2005 حين استغلت بعض القوى السياسية المحلية المدعومة من قوى خارجية ردود الفعل العاطفية على اغتيال الرئيس السابق لمجلس الوزراء رفيق الحريري وآخرين لتنهي معادلة «لا غالب ولا مغلوب»، وتفتح صفحة واعدة بالتغلب على الدولة السورية التي اتهمت بداية باغتيال الحريري. ولم تكن المحكمة الدولية بالنسبة إلى هؤلاء سوى شعار للاستقواء بقوى دولية لتحقيق «الانتصار».
ومع انتشار صور مئات آلاف اللبنانيين يتجمهرون في ساحتي رياض الصلح والشهداء يوم 14 آذار 2005 رافعين الشعارات المعادية للحكومة والجيش السوريين وبعض كبار ضباط الجيش اللبناني، ارتفعت نبرة التحدي وتحولت الى صراخ وتهديد ووعيد لسوريا وحلفائها، علماً بأن الحريري الراحل نفسه كان من أقرب المقربين اليها.
صحيح أن التظاهرة الحاشدة التي قادها الأمين العام لحزب الله يوم 8 آذار 2005 لتوجيه الشكر للجيش العربي السوري قبل انسحابه من لبنان كانت إعلاناً واضحاً عن انتماء فئة من اللبنانيين الى محور المقاومة الذي يضم بشكل رئيسي الجمهورية العربية السورية والجمهورية الإسلامية في إيران، في المقابل أتت تظاهرة 14 آذار 2005 لتعلن انتماء فئة أخرى من اللبنانيين الى محور بات يعرف للبعض بمحور «الاعتدال»، وهو يضم بشكل رئيسي المملكة العربية السعودية والولايات المتحدة وفرنسا وقوة إضافية لم يعلن عنها (وهي القوة التي قررت المملكة العربية السعودية على ما يبدو «الاعتدال» في التعامل معها).
غير أن جزءاً من اللبنانيين الذين انضموا الى محور «الاعتدال» يعبّرون اليوم عن رفض «سياسة المحاور»، ويتمسّكون بخرافة الحياد، خصوصاً بعد هزيمة مخطط تغيير النظام في سوريا (باعتراف واضح من وزير الخارجية الفرنسي والمستشارة الالمانية). بالنسبة إلى هؤلاء، ان نتيجة ما وصلت اليه الامور في سوريا يمكن ان تفسر الكثير من الامور تحت عنوان «المؤامرة الدولية». وتنتشر بين بعض الناس في بيروت وطرابلس وصيدا مقولات كثيرة تندرج تحت هذا العنوان ومنها:
ــــ أدت المؤامرة الدولية الى عدم تغيير النظام في سوريا؛ فلو أرادت أميركا فعلاً إطاحة النظام لتمكنت من ذلك.
ــــ إن «داعش» هو صنيعة النظام السوري بهدف القضاء على التحركات التي تستهدف الحكومة والجيش السوريين.
ــــ تمكنت مجموعات متطرفة دينياً من خطف «الثورة» السورية وتشويهها، ولم تتدخل القوى الدولية لتحريرها.
ــــ إن حزب الله هو مجموعة عملاء لإيران التي اتفقت مع القوى الدولية على عدم التعرض لأمن إسرائيل مقابل تدخلها في الشؤون العربية.
ــــ إن هدف إيران هو إقامة الهلال الشيعي الممتد من طهران الى بيروت، ومن ثم التوسع جنوباً للسيطرة على شبه الجزيرة العربية.
ــــ تخلّت الامم المتحدة عن الشعب السوري وتركته وحيداً في مواجهة الرئيس الأسد.
ــــ إذا بقي الأسد رئيساً للجمهورية العربية السورية فهذا يعني أنه اتفق مع الاميركيين أخيراً كما اتفق والده (الرئيس الراحل حافظ الأسد) مع الرئيس جورج بوش خلال تسعينيات القرن السابق.
بعض هذه الادعاءات قد لا يستحق النقاش. لكن لا شك في أن العلاقات الاميركية ــــ السورية خلال المرحلة السابقة تستدعي المراجعة، علماً بأن الدولة السورية لم تتخلّ يوماً عن خيار دعم المقاومة ولم ترضخ للعروض الاميركية والغربية في هذا الإطار.
لكن بسبب العجز عن مواجهة «المؤامرة الدولية» المزعومة، قد يتمنى بعض اللبنانيين اليوم العودة الى زمن «لا غالب ولا مغلوب». لكنهم يدركون صعوبة ذلك، خصوصاً بعدما بلغت أصواتهم أعلى نبرة أثناء شتم الرئيس الأسد والجيش العربي السوري وحزب الله وكبار ضباط الجيش اللبناني من جهة، وبعد إعلان انتصار المعادلة الثلاثية التي أضيف اليها الجيش العربي السوري بعد معركة جرود عرسال من جهة أخرى.
وبالتالي، في لبنان اليوم فئة غالبة وفئة مغلوبة. رحم الله الرئيس صائب بك سلام.
التحدي الأكبر يكمن في كيفية تجنّب حشر الناس في الزاوية، والسعي الى إعادتهم الى الحد الأدنى من الاعتدال السياسي والأخلاقي الصادق الذي عهدوه قبل الحرب الاهلية وخلالها، والثبات في معاداة الكيان الصهيوني. فليس مطلوباً منهم تأييد مواقف الجمهورية الإسلامية في إيران وقيادة المقاومة أو الموافقة على الكفاح المسلح في مواجهة إسرائيل ودعمه، لكن كل ما هو مطلوب منهم هو عدم قيامهم بأيّ أعمال عدائية تستهدف المقاومة. «نحن مقاومة ولسنا طلاب سلطة، لكن لا تطعنونا في الظهر»، قال السيد حسن نصر الله في كانون الثاني 2011. وكل ما تطلبه قيادة المقاومة هو أولاً، «ألا تتآمروا علينا ولا تقتلونا ولا تطعنونا في الظهر ولا نريد حتى الحماية منكم. ثانياً، اهتموا بالناس واخدموا الناس خصوصاً في المناطق المحرومة في عكار والبقاع والشمال وطرابلس».
على الرغم من أن طلبَي السيد حسن جاءا في بداية الاضطرابات في سوريا، قد تسهم الاستجابة للطلب الثاني في تجنّب حشر من يشعر اليوم بالهزيمة في الزاوية، غير أنها قد لا تكون كافية حيث إن العصبيات المذهبية والشعور بالانكسار الجماعي بعد فشل مشروع التغيير في سوريا قد يتفوّقا على عقلانية الحفاظ على المصالح وتأمين متطلبات العيش الكريم.
أما بالنسبة الى خشية البعض من محاسبتهم على ما عبّروا عنه من صراخ وشتائم بحق الجمهورية العربية السورية ورئيسها وما قاموا به من دعم للمتمردين على النظام الحاكم، فيستدعي أولاً تغييراً جذرياً في أسلوب تعامل المخابرات السورية مع الناس، وثانياً إطلاق مبادرات لإعادة اللحمة بين بيروت ودمشق. وقد يقوم بتلك المبادرات وجهاء ومخاتير وشيوخ وكبار العائلات من العاصمتين الشقيقتين. أما على المستوى القانوني، فينبغي تطبيق المعاهدة الدولية بين البلدين أو تعديلها أو إلغاؤها أو استبدالها بمعاهدة أخرى تنظم العلاقات قانونياً. فلا بد أن نقلب الصفحة ويستعاد لمّ الشمل بين الأسرة العربية السورية اللبنانية بأطيافها وجماعاتها المختلفة أحياناً والمتلاقية أحياناً أخرى.
لا يمكن أحداً، لا المتمردين على الدولة ولا البوليس السياسي ولا سماسرة وتجار الدم، أن يعزلوا دمشق عن بيروت وبيروت عن دمشق أو أن يعزلوا حلب عن طرابلس أو طرابلس عن حلب. ومهما كثر الكلام السياسي وتعدّدت البيانات والخطابات، يبقى الخط الفاصل بين لبنان وسوريا مجرد حدود سياسية مزعجة تؤخر العودة الى الأيام الحلوة لمن أحبّ القهوة في أبو رمانة والغداء على ضفاف نهر بردى والعشاء في الحمرا والسهر في عين المريسة.
وبالرغم من كل ما حصل، من المستبعد أن يرسب جميع أبناء بيروت وطرابلس وصيدا في امتحان اليوم، وهو أكثر من أيّ زمن سابق امتحان الهوية العربية. فالبعد العربي المباشر للبنان يمر بسوريا ومنها الى مصر والمغرب ودول الخليج العربي. أما في سوريا، فالرهان على قدرة الرئيس بشار الأسد على الإصلاح والتغيير.