فيما لم يتردّد جزءٌ من الجمهور المحسوب على "حزب الله" وحلفائه في التهليل للوهلة الأولى للأخبار التي أتت عن استهداف طائرات التحالف الدولي لقافلة "داعش" التي غادرت الحدود السورية اللبنانية، وذهب البعض لحدّ الحديث عن "اتفاق ضمني" ربما للقضاء على الإرهابيّين، لم تنتظر قيادة الحزب وقتاً طويلاً لإصدار بيانٍ رسميّ دحضًا لكلّ هذه الأقاويل ورفضًا لحصار القافلة التي لا تضمّ مسلّحين فحسب بل مدنيّين بينهم نساء وأطفال.
وإذا كان موقف الحزب أثار جدلاً واسعًا لم تنتهِ فصوله حتى الآن، هو الذي وصفه رئيس حزب "القوات اللبنانية" سمير جعجع مثلاً بـ"العجيب والغريب"، فإنّ علامات استفهامٍ بالجملة تطرح نفسها، فهل أخطأ الحزب في موقفه هذا كونه أربك "البيئة الحاضنة" له خصوصًا على صعيد "الحلفاء"؟ ولماذا حرص على الكشف عن مثل هذا الموقف بهذا الشكل العلنيّ؟ وهل المسألة أخلاقيّة محض كما ردّد بعض من يدورون في فلك الحزب؟.
المسألة أخلاقيّة؟
لا شكّ أنّ البيان الأخير لـ"حزب الله"، والذي أظهر فيه "تعاطفًا" بشكلٍ أو بآخر مع عائلات إرهابيّي "داعش" وحرصًا رآه البعض "مبالَغًا به" على حياتهم، مناشدًا المجتمع الدوليّ، الذي لم يعترف به يومًا، إلى التدخّل لمنع حصول "مجزرة بشعة"، لم يكن من البيانات التي يمكن تصنيفها في خانة "الشعبوية". ولا شكّ أنّ هذا البيان، انطلاقاً من ذلك، "أربك" العديد من حلفاء الحزب الذين ذهبت بهم الحماسة إلى حدّ تمنّي عدم بقاء أحد على متن قافلة "داعش" حيًا بعد الأنباء عن استهدافها من جانب التحالف الدولي، تمامًا كما قدّم مادّة دسمة لخصوم الحزب لاستغلالها واستثمارها، خصوصًا أنّها "شوّشت" على الإحراج الذي شعروا به بعد إعلان رئيس الحكومة سعد الحريري أنّه والرئيس ميشال عون وافقا على عبور الإرهابيّين إلى سوريا، الأمر الذي كانت "كتلة المستقبل" قبل غيرها تحمّل "حزب الله" مسؤوليته.
ولكن، وأبعد من كلّ ذلك، فإنّ هذا البيان فتح سجالاً طويلاً عريضًا حول مسألة "الأخلاقيّات"، التي حرص الدائرون في فلك الحزب على اعتمادها أساسًا لتوضيح ملابسات البيان "الملتبس"، فقابلهم خصوم الحزب بسخرية، تجلّت بحديث الغالبية العظمى من هؤلاء عن "إيجابيّة" أفرزها البيان، تتمثّل بـ"اكتشاف" الحزب أخيرًا وجود مدنيّين في سوريا. وراح هؤلاء يسألون عن هذه "الإنسانية" في العديد من محطات الأزمة السورية، من تجويع مضايا والزبداني، إلى كيميائي الغوطة، مرورًا بما اصطلح على تسميتها ببراميل الموت، فضلاً عن المجازر التي اتُهِم النظام السوري، حليف "حزب الله" وشريكه، بارتكابها، ولماذا لم يصدر عن الحزب في كلّ هذه المحطّات أيّ موقفٍ حازمٍ مشابهٍ لذلك الذي صدر بالأمس. وفي حين تساءل هؤلاء عن الوقت الذي سيحتاجه الحزب ليدرك ما فعله "إنسانيًا" في سوريا على مدى سنوات من خلال مؤازرته لنظام الرئيس بشار الأسد، فإنّهم قرأوا في البُعد الإنسانيّ مجرّد "ستار" يخفي بين طيّاته دفاعًا مريبًا من جانب الحزب عن الإرهابيّين.
في المقابل، فإنّ مؤيّدي الحزب والعارفين بأدبيّاته لا يجدون في كلّ هذا الكلام أكثر من "قنابل دخانيّة" ومحاولة من المتضرّرين التشويش على "الانتصار" الذي تحقّق. وتنطلق وجهة نظر هؤلاء من أنّ "حزب الله" كان يدرك سلفًا أنّ موقفه هذا لن يحظى بالشعبيّة، خصوصًا أنّ العاطفة تدفع أيّ عاقل إلى المطالبة بقتل الإرهابيّين وعوائلهم من دون تمييز، على قاعدة "الثأر" للدماء التي أهدِرت بسببهم، ولا سيما دماء شهداء الجيش اللبناني، إلا أنّ الحزب أدلى بدلوه في هذا الإطار انسجامًا مع المبادئ التي لطالما التزم بها، خلافاً لكلّ ما يقال في هذا الصدد، وخير دليلٍ على ذلك أنّ الحزب أرجأ مرارًا العديد من العمليّات العسكرية فقط لتحييد المدنيين، كما كان يحصل عند استهدافه من كانوا يُعرَفون بـ"عملاء جيش لحد"، حيث أرجأ الحزب عمليّة ضدّ عقل هاشم رغم الجهوزية التامة، فقط لكون زوجته وابنه إلى جانبه.
رفع للمسؤولية؟
تُضاف إلى كلّ ما سبق قاعدة أخلاقية "ذهبية" في قاموس "حزب الله"، ألا وهي مسألة الإيفاء بالالتزامات، وهي قاعدةٌ يقول الدائرون في فلكه أنّه لطالما التزم بها على مختلف جبهات القتال، وساهمت في صنع مختلف الإنجازات والانتصارات التي حقّقها، وهي ليست مرتبطة حصرًا باتفاقٍ على تحصيل المزيد من المكاسب عند انتهاء الصفقة، من بينها إطلاق أسيرٍ للحزب من المجموعات الإرهابيّة، كما بات معروفاً.
وانطلاقاً من ذلك، فإنّ موقف "حزب الله" يبدو أقرب إلى رفع المسؤولية عن نفسه، من خلال القول بأنّه وفى بكلّ الالتزامات التي قطعها، وأنّه ليس المسؤول لا عن الحصار الذي فرضه التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة الأميركية على القافلة ولا عن النتائج المترتبة عن مثل هذا الحصار، خصوصًا في ظلّ منع وصول المساعدات الإنسانيّة إلى النساء والأطفال. وبالتالي، فإنّ كلّ التفسيرات الأخرى التي لجأ إليها البعض لا تبدو واقعيّة أو منطقيّة، سواء لجهة القول أنّ الحزب يخشى على "داعش" لأنّ المصالح بينهما مشتركة والتنسيق واحد، في وقتٍ كان قتال الحزب لإرهابيّي "داعش" على الأرض من العوامل التي ساعدت في إبرام "التسوية"، ولا لجهة القول أنّه يخاف أن يتمّ إلقاء القبض على هؤلاء ويدلوا باعترافاتٍ من شأنها إدانته.
وأبعد من كلّ ذلك، فإنّ موقف "حزب الله" يرتبط بشكل أساسي بنظرته العقائدية إلى واشنطن، وتشكيكه بنواياها، علمًا أنّه يطرح الكثير من الأسئلة عن جدية موقف واشنطن من محاربة الإرهاب، هي التي كانت قادرة على استهداف الإرهابيين بشكل مباشر مرارًا وتكرارًا خلال السنوات الماضية، خصوصًا حين كانوا يحتلون الأراضي اللبنانية، لكنّها لم تفعل، وهي أصلاً لو كانت نيّتها استهداف القافلة فعلاً لضربتها بشكلٍ مباشر بدل محاصرتها لافتعال "بروباغندا إعلامية" في أحسن الأحوال، خصوصًا أنّ هناك مجموعات غادرت القافلة سيراً على الأقدام، من دون أن يعترضها أحد، ما يوحي بأنّ الحافلات قد تفرغ في المقبل من الأيام إذا استمرّ الوضع على حاله. ولعلّ ما يزيد من "ريبة" الحزب من الموقف الأميركي هو وجود "تناقض" في حيثيّاته، فمن جهة باركت واشنطن للجيش اللبناني الانتصار الذي حقّقه، والذي حاولت الإيحاء بأنّها "شريكة" في صنعه، ومن جهة ثانية، سعت لعرقلة تنفيذ الاتفاق الذي انتهت المعركة بموجبه، ما أوحى أنّها ليست راضية عمّا حصل، علمًا أنّ بعض التسريبات تشير إلى أنّ واشنطن حاولت ثني الجيش اللبناني عن القيام بالمعركة في هذا التوقيت.
المعركة الأساسيّة...
قد يرى كثيرون أنّ "حزب الله" أخطأ بموقفه من مسألة حصار قافلة "داعش"، خصوصاً أنّه لم يربك الأصدقاء فحسب، بل فتح "شهية" الخصوم على استثمار بيانه وتوظيفه بما يخدمهم، وهو ما لا يبدو أنّه سينتهي في القريب العاجل.
ولكن، وأبعد من هذه "الشكليّات"، لا شكّ أنّ اعتباراتٍ عديدة أملت على الحزب ما قام به، لعلّ أولها اعتباره أنّ معركته الأساسية كانت وستبقى مع إسرائيل ومن خلفها أميركا، وبالتالي عدم السماح للأخيرة أن تقفز على الإنجاز الذي تحقّق تمهيدًا لتشويهه بشكلٍ أو بآخر، وتحت أيّ عنوان...