لطالما اعتبرت فرنسا بمثابة "الام الحنون" للبنان، رغم ان هذا البلد كان تحت الانتداب الفرنسي لسنوات ولكن ما بعد الانتداب شهد مرحلة من التعاون والتعاطف... وبعيداً عن الماضي وما يحمله، وجدت باريس نفسها على مسافة غير قصيرة من لبنان والمنطقة بشكل عام، وهو امر ابتدأ مع عهد نيكولا ساركوزي واستكمل مع عهد فرنسوا هولاند، فتسيّدت الولايات المتحدة الساحة الى ان اندلعت الحرب السورية ودخلت روسيا على الخط بقوة وحصل ما حصل، خصوصاً بعد انتخاب دونالد ترامب رئيساً جديداً لاميركا.
اليوم، يحاول ايمانويل ماكرون استعادة الدور الفرنسي في الشرق الاوسط، وهي مهمة ليست سهلة في ظل الانتشار الذي شهدته المنطقة منذ سنوات لكل من روسيا وتركيا وايران والتراجع الاميركي (علماً ان الاميركيين باتوا يرغبون في العودة الى الساحة بشكل اكبر مما هم علي اليوم)، ولم يجد بالتالي افضل من لبنان كي يكون بوابة عبوره الى ارساء نسبة من النفوذ الفرنسي-وعبره الاوروبي- في هذه البقعة الجغرافية من العالم.
الدلائل على ذلك كثيرة، اهمها الاهتمام الفرنسي بقضية اللاجئين السوريين والعمل الاوروبي على ايجاد حل لهم من خلال المفاوضات مع الدول التي تستضيفهم حالياً، بشكل يحمي استقرار هذه الدول ومصالح اوروبا بصورة اوضح.
اما الامر الذي لم يكن يحتاج الى تتبع وتدقيق، فكان مشروع التجديد لمهام "اليونيفيل"، حيث وقفت باريس يشكل واضح في وجه اي محاولة لتعديل مهام هذه القوة، علماً ان موسكو وبكين كانا على استعداد لافساد اي "طبخة" كان يحضرها الطباخون الاميركيون وحلفاؤهم في هذا السياق. الا ان الوقفة الفرنسية كان لها اهمية اكبر لكون الفرنسيين معنيين مباشرة وبقوة بهذه المهام بسبب تواجد نحو 800 جندي فرنسي على الحدود اللبنانية-الاسرائيلية، واي تغيير في نظام عمل هذه القوة الدولية من شانه ان يشكل خطراً عليهم، فيما الاميركيون وغيرهم غير معنيين بهذا الامر، ولن يقلقوا بالتالي على مصير جنودهم وعلى ردات الفعل الداخلية ازاء اي جثة قد تعود الى الوطن.
هذا التواجد العسكري اعطى ايضاً صلاحية سياسية ودبلوماسية لفرنسا كي تكون حاضرة بقوة للتدخل عند الحديث عن اي موضوع يطال "اليونيفيل"، فكم بالحري اذا كان هذا الامر يطال جوهر وجودها. السياسة الفرنسية في هذا السياق، تعتبر انه من المبكر الحديث عن تعديل عمل هذه القوات ان بالنسبة الى ارغامها على استخدام القوة لمنع عناصر حزب الله من التواجد على احدود، او توسيع رقعة الانتشار الى اراض لبنانية بعيدة عن الجنوب، وعليه يصبح من الصعب فعلاً في ظل عدم الرضا الفرنسي والاوروبي بشكل عام، ان يمرّ مشروع قانون دولي لا يحظى بموافقة ومباركة فرنسية.
امر آخر تعوّل عليه فرنسا ماكرون، وهو ان هذا الموقف من شأنه ان يقرّب الفرنسيين من جميع الافرقاء على الساحة اللبنانية والاقليمية، فيصبح التدخل الفرنسي مقبولاً ويمهّد لعودة الى الطاولة الرئيسية في المنطقة، وهو امر بالغ الاهمية لانه يضع موطىء قدم لباريس في الشرق الاوسط الذي سيكون مغايراً بعد التسوية السلمية التي بدأت تطل بملامحها في سوريا.
لذلك، تبدو فرنسا اليوم متحمسة للشأن اللبناني، وهي استقبلت رئيس الوزراء سعد الحريري وتتحضر لاستقبال رئيس الجمهورية ميشال عون، وألمح ماكرون الى علاقاته الشخصية بلبنان واللبنانيين وهو ما جعله يزور هذا البلد خلال حملته الانتخابية، فيما مهّد لدور فرنسي في انعاش الاقتصادي اللبناني من خلال مؤتمر ترعاه فرنسا، ومؤتمر آخر على استعداد ان ترعاه يطال مسألة اللاجئين السوريين.
يحاول ماكرون اعادة فرنسا بقوة الى المنطقة، وهو لم يجد افضل من لبنان بعد ان باتت سوريا ممتلئة بالتدخلات الاجنبية، والعراق غير جاهز للخروج من الغطاء الاميركي، ويمكن القول انه قطع نصف المسافة لتحقيق هدفه.