كثيراً ما كان معسكر العدوان على سورية يخشى أن تتجه القوات العربية السورية يوماً الى دير الزور وتفك الحصار عنها لتستعيد عبره السيطرة على المعبر الرئيسي الذي يربط العراق بسورية في الوسط، وان تستعيد السيطرة على الحدود الشرقية السورية العراقية التي أبقتها اميركا وبتدخل مباشر منها ورقة احتياط رئيسية تلعبها للتعويض عن خسارة تخشاها في الهدف الرئيسي الذي من أجله شنت الحرب – العدوان على سورية، وهو إسقاطها وتفكيك محور المقاومة.
من هنا نفهم كيف ان اميركا لم تتدخل بشكل مباشر ضد وحدات الجيش العربي السوري إلا عندما تحركت هذه الوحدات نحو الشرق او عندما نجحت في التعامل مع حصار مرير فرض على مواقعها في دير الزور، حيث تدخل الطيران الأميركي في عمل عدواني مباشر ضد مراكز الجيش العربي السوري في جبل الثردة قرب مطار دير الزور وأمد داعش بنيران دعم كثيفة وفعالة أدت الى تمكن هذا التنظيم الإرهابي من الدخول الى المواقع تلك والسيطرة عليها، مع نية لتطوير الهجوم لإخراج الجيش كلياً من دير الزور ومطارها. لكن الجيش العربي السوري وبإرادة فولاذية وصمود اسطوري أفشل الخطة الأميركية وتشبث بالأرض منتظراً يوماً يفك فيه الحصار أو يقضي عناصره شهداء فداء لوحدة سورية.
بعد العدوان الأميركي المباشر في دير الزور كان عدوان آخر ضد القوى البرية السورية التي تحركت من البادية لاستعادة التنف على مثلث الحدود العراقية الأردنية السورية، حيث حصل ولمرة ثانية تدخل بعدوان مباشر من التحالف الذي تقوده اميركا وقصفت القوى السورية المتحركة مدعية أنها تشكل خطراً على قواتها في التنف، وكأن لها الحق أصلاً في الوجود هناك، ولكن الجيش العربي السوري مع حلفائه رفض الانصياع أو الرضوخ للإرادة الأميركية وافشل الخطة وقام بعملية التفاف سريع ورشيق أوصله الى الحدود السورية العراقية على بعد 70 كلم من التنف ليقول لأميركا إن وحدة سورية تستحق كل تضحية، وسنحفظها.
وفي عدوان ثالث وبشكل مباشر أسقط الطيران الأميركي طائرة سورية في ريف الرقة الجنوبي كانت تقوم بعملية إسناد جوي للقوى التي تقتحم على داعش مواقعها في رصافة، في عدوان ارتكبته اميركا لتؤكد حمايتها داعش ورفضها استعادة سورية السيطرة على تلك المنطقة المتصلة بالمنطقة الشرقية الآنفة الذكر.
لقد خططت اميركا لإقامة مناطق عزل وفصل على حدود سورية مع الدول المجاورة تمكنها من تعويض فشلها السيطرة على كامل سورية وتتيح لها السير قدماً بمشروع تقسيم سورية ضمن المشروع الرئيسي الرامي لتفكيك المنطقة وإعادة تركيبها على أساس عرقي او ديني او طائفي او مذهبي. وقد رأت، بعد ان امتلكت ورقة الاكراد في الشمال الشرقي السوري، ان تمتلك اوراقاً أخرى في الجنوب الشرقي، والجنوب الغربي السوري، فضلاً عن ورقة الحدود مع لبنان في منطقة القلمون/ جرود عرسال التي رفضت أميركا وبكل قوة تحريرها وطرد الإرهابيين منها، كما كشف السيد حسن نصر الله مؤخراً وبالدليل القاطع.
على ضوء ما تقدّم، نتبين الأهمية الاستراتيجية القصوى اليوم لتحرير دير الزور، ونتبين ان معركة دير الزور هي بالفعل وبالعمق معركة تثبيت وحدة الارض السورية، ومعركة تثبيت موقع سورية في قلب محور المقاومة، وهي معركة تثبيت تماسك وتناسق محور المقاومة وتواصل مكوناته من الشرق في إيران الى الغرب في لبنان مروراً بالوسط في سورية والعراق التي لن يكون موقعه الا في هذا المحور مهما فعلت أميركا وحرّكت مَن يصغون إليها من مسؤولين عراقيين لإبعاد العراق عن محور سترى أن العراق هو من صلب مكوناته.
أما في السياق العام وتسلسل العملية الدفاعية السورية، فإن لمعركة دير لزور موقعاً مميزاً وهي تأتي ضمن لائحة المعارك الأخيرة التي تخاض تحت عنوان معارك المعالم الاستراتيجية الكبرى، ومراكز الثقل النوعي الاستراتيجي السوري. وهي في ذلك تعتبر معركة مفصلية بين مرحلتين، مرحلة كانت ترمي لاستعادة السيطرة على الحدود والإمساك بالمعابر مع الدول المجاورة والتي شارفت على نهايتها، ومرحلة التصفية والإجهاز على الإرهاب نهائياً في جزر حوصر فيها، فانقلب الى قتال اليائس العاجز عن الثبات كما يحصل في البادية وريفي حماه وحمص.
وهنا لا بدّ من تأكيد أن تحرير دير الزور سيكون منطلقاً للوصول إلى البوكمال عبر الميادين، حيث سيكون لقاء الجيش السوري الآتي من الغرب والجيش العراقي الآتي من الشرق عبر القائم. ويتكامل العمل هذا مع ما سبقه من تحرير للقلمون السورية وجرد لبنان، وكذلك مع السيطرة المتدرجة على كامل الحدود مع الأردن. وبهذا يُعاد إنشاء السياج الأمني الذي يحمي سورية على حدودها الدولية بانتظار ما سيكون عليه الوضع في الشمال، لأن للشمال خططه التي لن تتأخر والتي ستفاجئ من ينتظرها.
ولهذا نرى في البعد الاستراتيجي لفك الحصار عن دير الزور، تأكيد سقوط الهدف الاستراتيجي الأول للعدوان على سورية المتمثل بالاستيلاء على كامل سورية، ثم إسقاط الهدف البديل الأول المتمثل بتقسيم سورية، وأخيراً إسقاط الهدف الاحتياطي الثاني للعدوان والمتمثل بإقامة مناطق الفصل والعزل عن دول الجوار وتقطيع أوصال محور المقاومة.
اما في البعد الاقتصادي، فإن لاستعادة السيطرة على منطقة دير الزور وحوض الفرات حولها إنما هي استعادة سيطرة على ما يشكل ربع الثروة الطبيعية السورية نفطاً ومياهاً وزراعة، وكسر للإرادة الأميركية التي هدفت الى افقار سورية لتركيعها بالعقوبات الظالمة غير الشرعية التي فرضت على شعبها.
وفي البعد العسكري، سيسجل التاريخ العسكري للجيش العربي السوري وحلفائه مأثرة عسكرية قلّ نظيرها، وعلى وجهي أنواع القتال الدفاعي والهجومي ـ حيث إن ثبات المحاصرين في مواقعهم لأكثر من 3 سنوات سيشكل حالة نوعية تستحق الدراسة والتحرّي عن أسباب النجاح فيها للاقتداء بها، كما أن عملية الهجوم التي خطّط لها بدءاً من تحرير تدمر قبل 6 أشهر كانت عملية إبداعية متروّية وواثقة حققت المطلوب دونما تسرّع أو تهور ودونما تأخير او إضاعة وقت من غير جدوى.
وأخيراً تبقى كلمة في البعد المعنوي، حيث كان فعلاً من حق السوريين جميعاً، وفي مدنهم كلها ومن حق محور المقاومة بمكوناته كلها، ومن حق كل من وقف ضد العدوان على سورية من مشرق الأرض الى مغربها أن يحتفل بهذا النصر الاستراتيجي العظيم ويعيش أعراسه في معنويات عالية وإصرار على استكمال المهمة حتى تفهم اميركا أن زمن سيطرتها على العالم ولّى ولن يعود، طالما أن هناك محوراً التزم المقاومة سبيلاً للمحافظة على حريته واستقلاله وسيادته.