تأتي زيارة وفد الحكومة اللبنانية الى روسيا برئاسة رئيس مجلس الوزراء سعد الحريري شخصيا في هذا التوقيت بالذات لتحمل معها دلالات تختلف جوهريا" عن سابقاتها. لا يتعلق الامر بزيارة الحريري الى موسكو كرئيس للحكومة هذه المرة، وليس بصفته رئيس تيار سياسي في لبنان وحليف اساسي للسعودية. بل تأتي الزيارة بعد حصول تطورات سياسية وميدانية على مساحة الدول العربية والاقليمية تكرّس روسيا في موقع الريادة، وتدفن الأحادية الاميركية في صنع او التأثير على قرارات المنطقة. قد يكون الحريري آخر من اعترف بأهمية الدور الروسي ووجوب عدم مشاكسته، رغم أن الروس كانوا لطفاء مع كل اللبنانيين. سبق وأن فتحوا قلوبهم وأسواقهم ومخازنهم العسكرية، لكن السياسة اللبنانية هي التي لم تبادر موسكو الاّ بالجفاء والحذر والابتعاد والتهرب، لا بسبب ترقب مسارات المنطقة وخصوصا سوريا، بل خوفا من غضب الأميركيين. هذا ما يردده سياسيون علنا في مجالسهم.
لم يتقدم لبنان بأي خطوة عملية تجاه موسكو سابقا، حتى أن قوى 14 اذار سابقا وضعت الحرم على التعامل مع روسيا تماما كما فعلت مع ايران. لم يقم وزير الدفاع السابق سمير مقبل بالتجاوب مع الطلبات الروسية لتأمين اسلحة وذخائر للجيش اللبناني، رغم توقيع الاتفاقيات، مستندا الى موقف الحكومة المتردد آنذاك. رغم الزيارات الحكومية والاقتصادية اللبنانية الى موسكو. بقيت جميعها في الشكل، وعالقة غي الجوهر. حين تسأل سفير الاتحاد الروسي في بيروت الكسندر زاسيبكن عن عدم حصول انجازات في الشراكة والتبادل بين البلدين يرمي الكرة عمليا في الملعب اللبناني من دون أن يستفيض في شرح المعوقات.
لكن موسكو ستسأل الوفد اللبناني عن أسباب عرقلة التفاهمات والعقود والمشاريع التي تخص البلدين: أين أصبح النقاش النيابي في لجنة الدفاع الوطني بشأن "اتفاقية التعاون العسكري" بين البلدين؟ قيل أن مشروع الاتفاقية مخبّأ في أدراج اللجنة المذكورة التي يرأسها النائب سمير الجسر، الذي ينتمي الى كتلة المستقبل النيابية. لماذا تفضّل بعض قيادات الاجهزة الامنية التعامل مع الاميركيين واجهاض أي مشروع تسليح من قبل الروس؟ هل الاسباب تنحصر بنوعية السلاح فقط، كما يتذرع هؤلاء القادة؟ أم بسبب القرارات السياسية الموجّهة لتلك القيادات؟ لماذا لم يتم تنفيذ العقود العسكرية التي تمّ توقيعها بين موسكو وبيروت حتى الآن؟ كيف يجري تأمين الاموال لدول عدة بدل أسلحة للبنان ولا يتم تأمين الأموال لموسكو؟ تلك أسئلة تقنية سيجري التطرق اليها مباشرة او بالاشارة خلال اللقاءات مع رئيس الحكومة الروسية ديمتري ميدفيديف والوزراء.
العناوين السياسية الاستراتيجية ستحضر بشكل اساسي مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين. يعرف رئيس الاتحاد الروسي أن نجاح الحلف الذي تقوده بلاده في سوريا تحديدا، هو الذي قاد الحريري الى موسكو هذه المرة. لو خسرت روسيا رهاناتها ومعركتها في سوريا، لكانت واشنطن أقرب الى ولي العهد السعودي الامير محمد بن سلمان-الذي يستعد لزيارة روسيا، وقادة دول ورؤساء حكومات وقيادات من موسكو. ربما كانت خطوة الحريري عندها أقل اندفاعا مما يحصل الآن. ما يعني أن انتصار وجهة روسيا يسمح بفرض رأيها، لكن موسكو ستبقى في اطار سياسة النصح لا الفرض كما يقول من يطّلع على خفايا سياساتها الدبلوماسية الرصينة.
يدرك بوتين حجم التحولات الجارية على مساحة الشرق الاوسط. يعرف أن لبنان بلد صغير الحجم ومتواضع القدرات العسكرية نسبيا، ودائم الازمة السياسية والاقتصادية المضبوطة. لكن لبنان خاض مواجهات مفتوحة مع الارهاب في الميدان والسياسة، وسطّر بطولات منذ أجهض مشروع الارهاب الذي بدأ يتوسع عام 2013. تصل التقارير الى الكرملين عن سياسة لبنان، وان رئيس جمهوريته اليوم ميشال عون ينحاز الى "محور المقاومة" ويقود حربه ضد الارهاب من دون تراجع أو تلكؤ، وهو حليف طبيعي لروسيا. وان رئيس المجلس النيابي نبيه بري سياسي حكيم استطاع أن ينقذ لبنان بالحوار والتواصل، بأصعب الظروف اللبنانية منذ أزمات 2005 حتى انتخاب عون رئيسا للجمهورية، وهو بالتالي ينتمي الى "محور المقاومة" وحليف لموسكو. في تلك التقارير ايضا ان بيروت بلد التحالفات المتشابكة المتغيرة، لكن الرئيس الروسي يعرف ان لبنان بلد قدّم مئات الشهداء على الارض السورية ضد الارهاب في نفس المعركة التي خاضها الروس، وفي نفس الخندق. هنا تتجسّد الشراكة بالدم والتضحيات بنفس الهدف.
لذلك لا يتوقع الروس أن يسدي لهم الحريري نصائح بخصوص سوريا، لقد جربوا مع اللبنانيين صوابية القرار الذي اتخذوه في بلاد الشام. والاهم أن هذا القرار انتصر. من هنا يبدو أن بوتين هو من سيطلب من الحريري التعامل بواقعيّة في العلاقات مع سوريا. سيستند الرئيس الروسي الى نجاحات ميدانية ومصالحات وتسويات تكرّ. سيكون موقف بوتين مدعّما بوقائع عملية: من تطورات دير الزور في سوريا، الى الجرود اللبنانية التي سطع فجرها منذ اسابيع، الى ما يشهده الجنوب السوري من اعادة مساحته الى حضن الدولة وفتح المعابر مع الاردن، الى المتغيرات الخليجية والعربية، والأهم المصلحة اللبنانية الى جانب دمشق لا ضدها. هذا ما كرسته التجارب.