رغم كل الآلام والمعاناة، والقهر الذي تفرضه الحروب العدمية هذه الأيام فإنني أحمد الله أننا نشهد هذه المرحلة التاريخية، والتي هي من أهمّ وأعقد المراحل التي مرّت بها البشرية فلا تزيدني الأحداث اليومية، والإقليمية، والدولية إلا قناعة بصورة ارتسمت في ذهني منذ ست سنوات ونيّف ألا وهي دورة، وانزياح هذا العالم الذي نعرفه وتحرك دورة عالم آخر ليحلّ محله ببطء شديد ولن تكتمل الصورة، ربما إلا بعد سنوات، والمشهد اليوم في ذهني هو مشهد دائرتين تتقاطعان وتختلفان الواحدة عن الأخرى، وبإمكاننا أن نستوضح أهمّ معالم كل دائرة من خلال النصف المرئيّ منها وإن كان النصف الآخر مازال مغموراً تحت التقاطع مع الدائرة الأخرى التي لا تشبهه. في قمة بريكس التي عقدت في الصين منذ أيام كنت أركز البصر والذهن على النصف المرئيّ من دائرة العالم الجديد، على القبس الذي وصلنا من العقود القادمة وعلى شكل العالم الذي سيشهده أبناؤنا، وبالتأكيد أحفادنا، فاطمأنيت وأسعدت أيما سعادة. فقد رأيت قادة البريكس يتوافدون ويتم استقبالهم بلغة جسد تعبّر فعلاً، لا قولاً، عن الندية والاحترام، وبتعابير سعيدة على وجوه الجميع تعلن تحررّها من آثام النظرة الفوقية، والعنصرية التي تضطر للتعامل معها في لقاءات مغايرة في النصف الآخر من الدائرة. كما رأيت سيدة الصين الأولى ترتدي فستان حرير من صنع الصين وتقف برقّة وتواضع، لتمثّل بلداً وريثاً لحضارة عريقة ويعدّ العدة لإحياء طريق حرير سوف يغيّر هوية وأسلوب عيش العالم برمته. رأيت حفل عشاء ولقاءات وخطى وكلمات تسعى بالفعل للتخلّص من عالم يفترس فيه القوي الضعيف كما قال الرئيس الصيني، كما رأيت جهوداً حثيثة لتثبّت مبدأ بسيطاً ولكنه جوهري جداً ألا وهو الأخوة في الإنسانية بغض النظر عن العرق، أو الدين، أو الجنسية، أو اللون. وهذا هو المبدأ الذي كان من المفترض أن يوضحه ويؤكده مصطلح "قرية صغيرة" الذي سعى الغرب إلى تثبيته، ولكن فقط لكي يحوّل العالم إلى ساحة مستباحة للاستغلال الاقتصادي، ونهب النفط والثروات، وفي ذات الوقت كي يصبح هذا العالم سوقاً حصرياً للمنتجات الغربية. أما مفهوم القرية الصغيرة الذي بدأ يشعّ من خلال اجتماعات البريكس فهو الوحدة في التنوع، أو التنوّع ضمن الوحدة، ولكنّ الوحدة الإنسانية في القرية لا تلغي رحابة الكون، وشساعته وحرية الإنسان في التحرك والعمل في أرجاء هذا الكون على رحابته متحرراً من المفاهيم الضيقة التي تعرّضه للاضطهاد، أو الإذلال، أو الشعور بالدونية. إن الخطط التي ارتسمت على نصف الدائرة الظاهر من عالم المستقبل تشير إلى الجهود للتحرر من السيطرة المالية، والاقتصادية، والعسكرية، والأخلاقية للنصف الآخر من الدائرة وقد بدت ملامح هذا التحرر تتضح، والخطوات اللازمة لاستكماله ترتسم. والجميل في الأمر أن القرار ثابت في أذهان قادة الدول المجتمعة، أن هذه الدائرة ستكون منفتحة لتشمل كلّ من يشاطرنا القيم، والتوجه، والإدارة وبهذا فهي تسعى لاحتضان العالم الجديد، وتصحيح أسسه، ومعالمه بما يخدم الإنسان في كلّ مكان. وحتى التغطية الإعلامية للحدث كانت غير مسبوقة، وشارك بها المجتمعون بالتساوي والتكامل، لتشكّل نفحاتٍ جميلةً من عالم الأحفاد.
أما النصف الثاني من الدائرة والذي مازالت العقول تحتار في تفسير أهدافه، ودوافعه، ومقاصده النهائية، فهو مازال يرزخ تحت حملات التضليل الإعلامية التي تركّز على التغطية على الهدف الأساسي من مجريات الأحداث في العالم. وذلك من خلال الحديث عن معاناة البشر وحقوق الإنسان، والأطفال، والنساء سلعة رخيصة لتحقيق ما يريدونه من نهب للثروات واستيلاء على مصادر أرزاق الشعوب. وبنظرة سريعة، ولكنها فاحصة، إلى ما يجري اليوم على يد الغرب نرى أن الطائرات الأمريكية قد انتشلت قادة داعش من قدرهم المحتوم في سوريا، وأن اسرائيل قلقة على حدودها بعد أن تمّ القضاء على داعش في القلمون، كما أننا نرى المحاولات الحثيثة لخلق دولة كردية في العراق، وذلك لهدفين اثنين وضع اليد على النفط العراقي والسوري وخلق كيان داعم للكيان الصهيوني المغتصب الذي يسعى لإقامة دولته من النيل إلى الفرات، ومن هنا أتى تركيزهم على خطّ نهر الفرات الممتدّ من شمال شرق سورية وإلى البصرة للأسباب ذاتها، وفي محاولة للوصل بين شمال العراق والأنبار في العراق، وبين الرقة والبوكمال في شمال وشرق سورية وإذا لم ينجحوا فسيكون أمراً مفيداً لهم خلق معارك طويلة بين الأكراد والعرب، والتباكي على الضحايا المدنيين، ضحايا مخططاتهم وجشعهم للإستيلاء على نفط وثروات العرب، وإلا فكيف يبقى النفط العراقي مستباحاً إلى حدّ اليوم يُنهب دون عدادات، ودون أن تعود فوائده على الشعب العراقي الذي يدفع ضريبة جشعهم، وعدم توفر الإرادة، والخطط لديه لمواجهة كل مخططاتهم الجهنمية للشعوب. وما يحدث اليوم في ميانمار والفتك بأرواح المسلمين هناك لا يشذّ عن هذه القاعدة لأن ميانمار المجاورة للصين تماماً والتي تمتلك النفط الذي يغذي النموّ والتطوّر الصيني مستهدفة من قبل الولايات المتحدة كي تحرم الصين من هذا المصدر القريب للطاقة، ويبدأ اليوم التباكي على أرواح الضحايا والحديث عن المأساة الإنسانية التي سببّها النزاع الذي أحدثته المخابرات الأمريكية بين البوذيين والمسلمين كتبرير لتدخل الغرب من أجل الإستيلاء على المنطقة وحرمان بورما من نفطها والصين من الطاقة. والسياق ذاته ينطبق على كوريا الشمالية إذ أن المستهدف هو الصين، ولذلك فإن الصين تتصرف بحكمة حين لا تدع هذا الملف ذريعة بيد الولايات المتحدة. خلاصة القول أن النصف المغطى من الدائرة، والذي لن يكون له نصيب في عالم المستقبل هو النصف الذي يعتبر النفط، والمال، والثروات المادية هدف الوجود، ويحاول بشتى الوسائل استباحة البلدان، ونهب ثرواتها هذه، أما النصف الذي ينبلج اليوم بتؤدة، وثقة، ورؤيةواضحة فهو النصف الذي يرى الأخوة في الإنسانية، ويُرسي أسس التعاون بين بلدانها، وشعوبها، ويعمل جاهداً من أجل ولادة عالم جديد على مساحة الكرة الأرضية يضع إنسانية الإنسان فوق كل اعتبار، عالم خالٍ من العنصرية، والاحتلال، والإرهاب.