بعد أن فشلت قوى العدوان الأميركي في تحقيق الهدف الرئيسي من عدوانها باسقاط سورية، تفتق ذهن استراتيجييها وخبرائها ومخططيها واتجهوا الى المنطقة الشرقية في سورية لإقامة منطقة الفصل والعزل المحكم بين العراق وسورية وتاليا فصل محور المقاومة بشرقه عن غربه،
وقد كانت الخطة الاميركية تقوم على عناصر ثلاثة: الاول تجهيز قوى محلية تنفيذية والثاني نشر القواعد العسكرية الاميركية في المنطقة لحماية الاولى وتدريبها والثالث اخراج من تبقى من قوات سورية وحليفة من كامل المنطقة ومنعها من الاقتراب منها تحت اي طائل حتى لو اقتضى الامر التدخل العسكري الاميركي المباشر.
وفي المقابل وضعت القيادة السورية مع الحلفاء خطة معاكسة تقوم على عناصر ثلاثة ايضا: الاول التشبث بالارض في المنطقة حيث كانت هناك قوى تدافع عنها،لا بل وتعزيز تلك القوى ان امكن، الثاني احداث اختراقات للوصول الى الحدود العراقية مهما كان الثمن، والثالث الهجوم المحضر والممنهج لطرد داعش من المنطقة وحرمان اميركا من ذريعة وجودها وتدخلها فيها.
وراح كل فريق من المعسكرين يعمل على تنفيذ خطته الهجومية او الدفاعية بما حضّر لها وبما أوتي من ارادة وعزم لإنجاحها وقد كانت الخطة الاميركية واضحة تنفيذيا وسهلة الاعمال بالنسبة للمعتدي مع وجود طيران اميركا والتحالف غير المشروع الذي تقوده. واحتضان اميركا لـ «قوات سورية الديمقراطية» وتشكيلها وتدريبها لقوات محلية في البادية ثم انطلاقها في بناء ارخبيل القواعد العسكرية التي بلغت من شمال سورية الى جنوبها قرب الحدود الشرقية عند التنف عشر قواعد متفاوتة الحجم والاهمية ولكنها تشكل نواة المنطقة الفاصلة، ثم كان القرار الاميركي الوقح الذي كشف لأي أعمى ومضلل حقيقة الوجود والتدخل الاميركي في سورية، قرار باستهداف الجيش العربي السوري مباشرة حيث قصفت مواقعه في المنطقة لإخراجه من دير الزور، وقصفت طلائع قواته لمنعه من التقدم الى التنف، وأسقطت طائرة حربية سورية لمنعها من تقديم الإسناد الجوي للقوى المتقدمة في ريف الرقة الجنوبي. تصرف جعل مسرح العمليات في المنطقة الشرقية وبكل وضوح ميدانا لمواجهة بين قوى تقودها اميركا وقوى سورية مدعومة بالحلفاء وقوات رديفة.
لم توفر اميركا في حربها العدوانية في فصلها الشرقي ذاك وسيلة الا واستعملتها ضد سورية وحلفائها وبالتالي كان على القوى في معسكر مقاومة العدوان على سورية ان تعمل باقصى درجات الحذر والاتقان والوعي لافشال الخطة الاميركية خاصة وان مجريات الميدان جعلت المواجهة في تلك المنطقة بمثابة المعركة المفصلية شبه الاخيرة التي على ضوئها سيحدد من ربح الحرب حقيقة ومن خسرها وحجم الربح والخسارة في سورية ومنها في المنطقة كلها.
ولان لهذه المعركة مثل هذه الاهمية راينا كيف انه ولاول مرة سمحت لا بل وجهت قيادة حزب الله قائدا ميدانيا فيها بان يخرج على الاعلام ويقول ما قال عن حصار دير الزور والثبات فيها وعن معركة فك الحصار عنها وعن مطارها حيث كان على راس قوى من المقاومة يعملون الى جانب الجيش العربي السوري كتفا بكتف لمنع اميركا من النجاح في خطتها.
والآن وقد ربحت سورية وحلفاؤها المواجهة وحسمت المعركة لمصلحة معسكر الدفاع ضد معسكر العدوان الارهابي فإن السؤال الذي يطرح وسيشغل اهتمام الخبراء والمختصين سيكون حول امرين اساسيين: الاول متصل بطبيعة هذا النصر والثاني كيف تم تحقيقه ؟
و في الشق الاول من التساؤل نقول ان النصر في دير الزور هو نصر من طبيعة استراتيجية واضحة المعاني وانه ذو اركان عملانية مؤكدة وانه مفصلي من طبيعية مركبة وانه يستجمع شروط النصر المستقر غير القابل للنقض او الافساد، وهنا تكمن الاهمية القصوى لهذا النصر ما يجعله مختلفا عن بعض ما تحقق من انتصارات سورية خلال السنوات السبع الماضية من العدوان.
فمن الناحية الاستراتيجية فإن فك الحصار عن دير الزور وما سيعقبه من اندفاعة القوى باتجاه الحدود العراقية عند البوكمال يعني السقوط النهائي للخطة الأميركية في سورية عامة وفي المنطقة الشرقية خاصة وتاليا فراغ اليد الاميركية من اوراق استراتيجية اساسية كبرى يمكن لعبها ضد وحدة سورية وقرارها السيادي المستقل ما سينعكس حتما على اي مقاربة سياسية وفي مكان للبحث في مخرج من الازمة، اما من حيث الطبيعة المركبة لهذا الانتصار فاننا نجد فيه انتصارا دفاعيا وانتصار هجوميا متلازمين يصنعان على مسرح عمليات وميدان واحد وقد يتنافسان في الاهمية والتأثير العام.
فمن الناحية الدفاعية سيشغل الباحثون كثيرا في مسألة ثبات قوى محاصرة حصارا بريا محكما في بقعتين جغرافيتين ضيقتين ( مطار دير الزور والاحياء الغربية من المدينة ) ومنفصلتين الواحدة عن الاخرى وكذلك في خطة تموين هذه القوى من الجو من قبل قيادتها في دمشق وكيف نجح المحاصَرون الثابتون دفاعيا في كسر موجات الارهاب عليهم وكيف نجحت القيادة والجهة المولجة بالتموين في امداد القوى المحاصرة بما يمكنها من البقاء.
اما من الناحية الهجومية وهنا بت القصيد، فان الباحث بالهجوم سيكون ملزما في البدء بالانطلاق من نقطة اساس هي تحرير تدمر، تدمر التي شكل تحريرها مفتاح البادية ومفتاح استعادة المنطقة الشرقية وبالتالي ان معركة فك الحصار عن دير الزور تبدأ من يوم تحرير تدمر هذا التحرير الذي فتح الابواب امام الجيش العربي السوري والحلفاء باتجاه الشمال والشرق والجنوب ورسم الخط البياني الجديد لمستقبل المواجهة.
أما وصف الانتصار بالمستقر والثابت فمرده الى ان هزيمة داعش في المنطقة ومحيطها يمكن وصفه بالهزيمة التامة نتيجة الانهيار الميداني الذي اقتيدت اليه والذي اقترن او استبق بانهيار ادراكي معنوي سجل في الاشهر الثمانية الاخيرة التي لم تستطع خلالها داعش ان تصمد في معركة او تشن هجوما ناجحا.و بهذا صنع النصر الاستراتيجي المدوي في دير الزور الذي جاء نتيجة منطقية وحتمية لما يلي:
1) ابداع في التخطيط للمعركة ما جعل المعسكر الدفاعي يعمل وفقا لخطة عملانية محكمة وضعت بروية وبعد نظر دونما عشوائية او استعجال.. خطة شكلت وجها من وجوه الابداع العسكري الذي سيحتل موقعه في العلوم العسكرية والاستراتيجية.
2) انتصار في الحرب النفسية التي لجأ اليها العدو بعد ان صورت داعش بانها اسطورة لا تقهر وفي المواجهة في الميدان تبينت حقيقتها بانها تهزم وتسحق اذا واجهت من يقاتل باحتراف وشجاعة ويريد ان ينتصر وبهذا يكون محور المقاومة وفي اقل من عقدين حطم اسطورتين غربيتين، اسطورة اسرائيل وجيشها الذي قيل انه لا يقهر فمرغ في الجنوب، وأسطورة داعش التي قالت اميركا ان هزيمتها تتطلب 30 سنة او اقله 10 سنوات.
3) ابداع في العمل العسكري الميداني وشجاعة في الاداء واحتراف في المناورة مكن من الاقتصاد في القوى وخفض مستوى الخسائر فضلا عن الاقتصاد بالوقت.