التغيّر والثبات من سنن الحياة الطبيعية. هناك أشياء لا يمكن أن تبقى على حالها وإلا سيشعر الإنسان بالملل والرتابة والجمود والضيق، لذلك يأتي التغيير ليضيف للحياة تبدّلاً ضرورياً وللإنسان روحاً جديدة. التغيير بهذا المعنى كمال وتطوّر. في المقابل هناك أمور كونية أو اعتقادية إذا اعتراها التغيّر ستتعرّض حياة الناس للاضطراب والفوضى والاهتزاز والفتنة. فالتغيير والثبات هما محوران لا يمكن أن تقوم الحياة ولا أن تستمرّ بدونهما، ومن خلالهما تأتي السعادة ويحلّ النظام وتتكامل الأنفس نحو الأفضل. وأيّ خلل في تقديرهما واستعمالهما سيؤدّي إلى انعكاسات مادية ومعنوية تُعرّض الوجود وحياة البشر للخطر الكبير. تماماً كما يقول المتنبي:
ووضع الندى في موضع السيف بالعلا
مضرّ كوضع السيف في موضع الندى
من هنا نأتي إلى الوضع السياسي اللبناني لنقول: إنّ وحدة الوطن وحمايته من الأخطار ودعم الجيش ومؤسسات الدولة واحترام المواطنين وتأمين معيشتهم والدفاع عن أعراضهم وأموالهم ودمائهم ومواجهة العنصرية والعدوانية التي يمثلها الكيان الصهيوني تعتبر من الثوابت التي لا يجوز أن يطرأ عليها التغيّر. فمثل هذه القضايا لا يجوز أن يُقال فيها إنّ هناك وجهات نظر وآراء متعدّدة تجوّز مثلاً استباحة الأعراض أو نهب الممتلكات أو إضعاف الجيش والدولة بذرائع وحجج سمعنا الكثير منها أثناء الحرب الأهلية اللبنانية. فإنّ كل مسّ بهذه الثوابت والقيم سيعرّض النظام العام للخراب. نعم يمكن أن يطرأ التغيير على العادات والتقاليد والقوانين الوضعية وكيفية مقاربة القضايا الإنمائية أو النظر إلى الأمور الاجتماعية لما هو أفضل وأحسن بحكم أنّ الإنسان مفطور على الكمال. بيد أنّ هذا التغيير لا يمكن أن تصل نوبته إلى العدو الذي ما زال يرفع لواء عدائه للبنان وشعبه، ويمارس الاغتصاب والاحتلال وشتى صنوف العنف والإرهاب ضدّ الفلسطنيين. هذا الكلام الذي أسوقه سببه موجة التطبيع التي تحاول أن تلبس لبوس الواقعية السياسية والبراغماتية والتحوّلات المتسارعة في المنطقة، ورغبة بعض الدول العربية وخصوصاً الخليجية منها لإجراء مصالحات تاريخية تنهي حالة الصراع بين الكيان «الإسرائيلي» وهذه الدول، وأخرى تلبس لبوس الفن بعناوينه المختلفة. فتارة نجد تقارباً بين كُتّاب عرب وصهاينة، ومرة نجد مَن يعمل على حفلات موسيقية مشتركة تحت عنوان السلام والتعايش بين الشعوب والأديان، وأخرى نجد مَن يذهب إلى الكيان «الإسرائيلي» بحجة اكتشاف آفاق جديدة للكاميرا السينمائية أو تصوير موضوعات تتحدّث عن طبيعة الصراع وسبب استمراره من زاوية مهنية، ونحو ذلك من الحجج التي لا تصبّ في النهاية إلا لتكريس واقع الكيان الصهيوني ووجوده. وكلّ هذه الإجراءات لا يمكن القبول بها تحت عنوان المتغيّرات الكبرى التي طرأت على ساحات وفضاءات المنطقة السياسية والثقافية. لقد لجأ مؤخراً مقرّبون من النظام السعودي والبحريني والإماراتي إلى القيام بخطوات تقريبية تطبيعية مع الكيان، ثم قام محللون وسياسيون ومعارضون وفنانون وسينمائيون بالسير في الاتجاه نفسه، ولا شك في أنّ ذلك كله من شأنه أن يُحدث اضطراباً في المفاهيم والمعتقدات التي على أساسها انبنى العداء مع الكيان الصهيوني. إنّ مثل هذه الانقلابات في التوجّهات التطبيعية لا بدّ أن تصيب العقل الجمعي العربي والإسلامي فتصبح زيارة الكيان لأجل تصوير فيلم أو للاستشفاء أو للسياحة أو للتجارة أمراً مقبولاً وطبيعياً جداً. هذا النوع من الخطوات التي تأتي تباعاً لا شكّ في أنّها تهدف لكسر الحاجز النفسي بحيث تصبح العلاقة مع صهاينة محتلين وغاصبين تثبيتاً لمشروعية احتلال فلسطين، وقفزاً على ثوابت الصراع والحقائق التاريخية. فإذا كان البعض يرى إمكانية لتغيير المواقف من الكيان، فإننا سنبقى نعتبر ذلك من المحرّمات. فـ «إسرائيل» لن تحصل على مشروعية حتى لو تغيّر العالم بأسره. الحق لا يكون إلا حقاً، والباطل لا يكون إلا باطلاً، ولو أجرى عليه البعض تزيينات وتلوينات لا تزيد المطبّعين إلا انحداراً وسقوطاً في الهاوية!