عندما تُستحضر ملفات الإرهاب من أحداث عرسال إلى عبرا، مروراً بـ«إمارة الشمال»، تحضر المحكمة العسكرية الدائمة كـ«رأس حربة» في مواجهة الإرهاب. مئات الموقوفين من حَمَلة الفكر الجهادي مَثَلوا أمام هيئة المحكمة العسكرية منذ ٢٠٠٦ حتى اليوم. من بين هؤلاء، انتحاريون ومفخِّخون وأمراء شرعيون وعسكريون وذبّاحون
لا ينسى رئيس المحكمة العسكرية الدائمة السابق العميد خليل ابراهيم يوم نَظَر في عينَي بلال ميقاتي (أبو عمر)، ذابح العسكري المخطوف علي السيد. «يومها شعرتُ بالخوف من نظرة عينيه. كان ذلك عندما سألته إن كان نادماً وإن كان سيُكرّر جريمته، فردّ: ما في مشكلة أبداً». الفتى الذي لم ينبت شعر لحيته بعد، دخل قاعة المحكمة العسكرية، ومن دون أن يعبأ بالعسكريين المحيطين به، قال: «ماذا أفعل بينكم يا كفرة؟».
يقول العميد ابراهيم لـ«الأخبار»: «استفزّتني وقاحته، رغم صغر سنه، فسألته: شو إنت ذابح دجاجة وجايبينك؟»، فردّ قائلاً: «نحن نطبّق الشريعة. بدل ما كون هون، كان يجب أن أكون في الرقة استعدّ لتنفيذ عملية استشهادية ضد النظام وحزب اللات». لا تنتهي القصص الصادمة التي يسردها الضابط المتقاعد الذي بات مؤرِّخاً لـ«حقبة الإرهاب» في لبنان، بعد ست سنوات قضاها في استجواب أمراء شرعيين وقادة عسكريين ومقاتلين وذبّاحين من حَملة فكر تنظيم «القاعدة» و«الدولة الإسلامية». فترة تكفي لخلق مخزونٍ كبير حول أسلوب عمل الجهاديين واستشراف الآفاق المستقبلية في حياة هذه التنظيمات.
«أخطر الموقوفين هو نعيم عباس، لكنه حالة استثنائية لا تتكرر»، يردّ ابن بلدة بليدا الجنوبية من دون تردد. يروي ابراهيم كيف كان يتهرّب عبقري التفجيرات «أبو اسماعيل» من المحاكمة، ولمّا سأله ابراهيم عن ذلك وعن استمرار عزله لوكلائه، ردّ: «لشو بدي جيب محامي، لحتى يعمل إدغام لعقوبات الإعدام، كي أُحكم إعداماً واحداً عوضاً عن خمسة أحكام إعدام؟». بالنسبة إلى رئيس المحكمة السابق، فإنّ عمر ميقاتي (أبو هريرة) مجرمٌ خطير محكومٌ بالثأر. يسرد ابراهيم روايات عن إجرام «أبو هريرة ميقاتي» في استهداف عسكريي الجيش، جازماً بأنّ «في رقبته أكثر من سبعة عسكريين». يقول إنّ «الموقوف الشاب يعتبر أي شخص هدفاً له بمجرّد ارتدائه بذلة الجيش». ميقاتي هذا الذي كان يُصحّح لرئيس المحكمة عند قوله داعش، قائلاً «الدولة الإسلامية وليست داعش»، يعيش على ثأرٍ قديم ضد الجيش. يحكي العميد عن شقيقه علي الذي قتله الجيش في إحدى عمليات الدهم. وبين أبو عمر وأبو هريرة، يستذكر الإرهابي الأكبر أحمد ميقاتي (أبو الهدى) الذي يفتخر بماضيه الذي يمتد من أحداث الضنية عام ٢٠٠٠، مروراً بـ«الماكدونالد»، وصولاً إلى تأسيس خلايا متشددة لإنشاء ولاية إسلامية في عكّار. ولدى سؤاله عن الحكم الذي يستحقه «التريو» ميقاتي، يرد: «لا يمكن أن تنزل العقوبة عن الإعدام والمؤبد».
هنا تحضر قصة المتهم غسان الصليبي الذي كان يرتدي زيّاً إسلامياً، فناداه رئيس المحكمة بالشيخ، لكن الأخير اعترض قائلاً: «أنا أهم من شيخ، أنا داعية للإسلام». ومن دون مناسبة أضاف: «أنا بكره ريحة الشيعة على بُعد كيلومتر». وعندما انتهت الجلسة، سأله العميد ماذا تطلب من هيئة المحكمة فردّ: «لا أطلب منك شيئاً، إنما أطلب من الله». عندها سأله رئيس المحكمة: «يا غسان إذا تركتك اليوم شو بتعمل، فردّ قائلاً: إذا أخرجتني اليوم فسأذهب إلى الضاحية وأُفجّر هؤلاء الروافض. وغداً سأفجرهم وبعد غد سأُفجّرهم. هذا الحد الفاصل بيني وبينكم إلى أن تقوم الساعة». يقول ابراهيم إنّ غسان الصليبي حُكم بالسجن خمسة عشر عاماً.
يقسم العميد ابراهيم أحداث عرسال إلى اعتداءين. الأول يوم مقتل النقيب بيار بشعلاني والرتيب خالد زهرمان، والثاني ما عُرِف بـ«غزوة ٢ آب». يؤكد رئيس المحكمة العسكرية أنّ علي الحجيري المشهور بـ«أبو عجينة» ومصطفى الحجيري المشهور بـ«أبو طاقية» متورطان في هذاالملف، ويُضيف: «أبو طاقية دعا إلى الجهاد ضد الجيش من مسجده وهذا موثّق بالصوت والصورة». أما «أبو عجينة مع ولديه الاثنين فقد كانوا يدلّون المسلّحين إلى الطريق الذي سلكه العسكريون».
يرى العميد ابراهيم أنّ أبرز إنجازٍ قامت به المحكمة العسكرية كان عقد مصالحة لإنهاء ملف طرابلس. ويعتبر أنّ ملفات طرابلس الأخطر تتركز ضمن سبع مجموعات إرهابية، يُستبعد منها قادة المحاور في باب التبانة. ويعدد رؤساء هذه المجموعات الذين ينقسمون بين «داعش» و«جبهة النصرة»: «ابراهيم بركات ومعن سكاف وطارق خياط وخالد حبلص وشادي المولوي وأسامة منصور وأحمد ميقاتي». وردّاً على سؤال عمّن قصّر في أداء واجبه أو غطّى مطلوبين قال: «طلبت العقيد المتقاعد عميد حمود وخالد الأبرش مرّات عدة، لكن كان يأتيني الرد بعدم العثور دائماً. هل يُعقل أن الأجهزة الأمنية لم تعثر عليهما وعنوان سكنهما معروف؟». ويضيف: «هناك أشخاص لم يتم الادعاء عليهم، وهذا أمر مستغرب. مثلاً، سالم الرافعي لم تستدعه النيابة العامة رغم ورود اسمه في كل الملفات المتعلقة بالإرهاب».
تجدر الإشارة إلى أنّه بين ٢٠٠٦ و٢٠١١ عالجت المحكمة ١١٠ ملفات في قضايا إرهاب فقط، وأصدرت هيئتها ٩٠ حُكماً. ومنذ اندلاع الأحداث السورية، شهد عدد الملفات التي تنظر فيها المحكمة ارتفاعاً صاروخياً. إذ نظرت في ٦٨٢ ملفاً، وصل عدد الموقوفين المدعى عليهم في بعضها إلى أكثر من ١٠٠ (في ملف أحداث عبرا، مثلاً، استمعت هيئة المحكمة إلى إفادات ١١٠ مدعى عليهم دفعة واحدة). وأصدرت خلال هذه الفترة ٣٦١ حُكماً في ملفات إرهاب استثنائية.