تتوضّح صورة الرسم الجديد لخرائط العالم السياسي في كل يوم تتقدّم فيه تطورات الأزمة في سورية وما تلاها من ذيول الربيع العربي الذي عصف بكل من مصر وليبيا وسورية وتونس، وقبل هذه الدول كلها، وفق المنظور نفسه، العراق الذي كان اول اختبار لم يلتحق بمندرجاته أصحاب الشأن في الدول المذكورة ما خلا بعض الاستثناءات في مصر وتونس، لكن هذا كله كجزء يُضاف الى آلية رسم الحدود الطارئة على معالم السياسة الجديدة في المنطقة والعالم، لم يكن يعني يوماً أن تتأثر المنظمات الدولية أو حتى الأممية بتداعياتها بشكل يجعل من تموضعها او اصطفافاتها المعهودة موضع بحث.
تصريحات لافتة جداً للأمين العام للامم المتحدة تؤكد على التغيير الحاصل في الأروقة السياسية الدولية وتفيد بأن هناك جزءاً لا يتجزأ من التغيير المقبل على نتائج واحتساب النقاط بين الدول الكبرى التي تشهد كباشاً منذ عقود، وليس سراً أن الأمانة العامة للأمم المتحدة الموجودة في نيويورك كمقر دائم هي الأكثر تأثراً بالسياسات الأميركية أكان بالدائرة التنفيذية او السياسية او الإعلامية وحتى الحقوقية الإنسانية التي تحاول عبثاً الخروج من هذه الصبغة، فتنجح مرة وتخفق مرات. ومعروف أيضاً أن هناك ما يشبه التكبيل الذي يحيط ببعض اللاعبين الأمميين في مهماتهم المنتشرة في العالم، خصوصاً في العراق وليبيا وحتى سورية بما يتعلق باتخاذ قرارات او خطوات لا تتم فيها استشارة الأميركيين أو حتى الاتفاق المسبق معهم على ما سيصدر في نتائج هذا الملف أو ذاك.
حاولت الولايات المتحدة التدخّل مباشرة بقرارات مجلس الأمن عبر الفيتو القادر على إيقاف أي مشروع لا يتناسب مع مصالحها او حتى مصالح حلفائها لسنوات طويلة، لكن هذا الذي يبدو عادياً ليس عادياً بحالة تدخل أميركي مباشر من الجهة التنفيذية والسياسية بتعيين مسؤولين أميركيين نافذين من تحت ظلّ أو عباءة الأمم المتحدة لتنفيذ سياسات واشنطن او الاشراف عليها. وكان لكبير الديبلوماسيين الأميركيين السفير جيفري فيلتمان الذي شغل سابقاً مهمة في بيروت في أكثر لحظات البلاد دقة نصيب من التعيين مساعداً للأمين العام للأمم المتحدة السنوات الماضية، واستطاع العمل على ملف ايران النووي مباشرة مع الإيرانيين. وهو الامر الذي كان مستحيلاً في ما لو بقي ضمن العنوان الرسمي لبلاده. وبالتالي فإن استخدام الامم المتحدة للصالح الأميركي المباشر هو الأكثر حضوراً دوماً حتى على ألسنة الأمناء العامين المتعاقبين الذين يخضعون بدورهم لرضى او مباركة الولايات المتحدة بالاختيار.
حضور واشنطن الاول كهالة المكانة الأميركية العليا والأكثر تأثيراً في العالم السياسي النافذ يسيطر بشكله المعهود على الغرف والمكاتب بنيويورك، حيث تختار الولايات المتحدة تأمين مساعدات وتمويل لهذه المهمة والمنظمة الدولية الكبرى وتختار بدورها أيضاً كفّ اليد عن تأمين هذه الموارد، ما حذا ببعض الاطراف سحب الثقة في أي نزاهة تمثلها الأمم المتحدة، لكن هذا الأمر له هدف أساسي لا يعدو كونه فرض مكانة فقط، بل يتعداه لجهة الشعور بالهيمنة الذي تراه الولايات المتحدة ملائماً للعب دورها السياسي الدولي وهو وحده كفيل بإسقاط محاذير نفسية ومعنوية على المتعاملين معها في اللعبة التفاوضية أياً كانت.
اللافت اليوم هو كلام غوتيريس الآيل الى الاعتراف بضرورة التخلي عن الأحادية الأميركية الداعمة لمشروع الامم المتحدة كمنظمة قادرة على إيجاد توازن في إعلان صريح عما باتت تتمتع به روسيا على صعيد صناعة السياسة الدولية وجورها في صناعة السلام بعد أن كانت إحدى أكثر الجهات مستهدفة بأغطية أممية بأنها تدعم جهات إرهابية لتحقيق غاياتها أياً كانت. يقول أنطونيو غوتيريس إن «العالم لا يمكن أن يسمح لنفسه بأن تكون روسيا والولايات المتحدة في خصام»، ويقول أيضاً ان «العلاقات بين موسكو و واشنطن معقدة حالياً، لكنني أثق تماماً بأن السلام والأمن في العالم مرتبطان بشكل كبير بعظمة هاتين الدولتين. وهما دعامتان مركزيتان للمجتمع الدولي وأثق بحوار مثمر بينهما يحقق تفاهماً في مختلف المجالات. والعالم لا يمكن أن يسمح لنفسه بأن تكون الدول العظمى والقوية والمهمة مثل روسيا والولايات المتحدة في خصام».
يقرّ غوتيريس بأن لروسيا دوراً داعماً، لكنه يوضح انها باتت ضمن دائرته الخاصة وضمن أهدافه ايضاً المباشرة، اي ان العلاقة مع موسكو واحدة من اهم دعائم إنجاح مهمة الأمين العام والامم المتحدة كمنظمة. وهذا الكلام على بعد أيام من انعقاد الجمعية العامة للأمم المتحدة في نيويورك الذي سيستضييف رؤساء العالم وزعمائهم، وهنا يصبح التساؤل حول مواقف غوتيريس بناء على العقلية التي تسود خفايا الامم المتحدة وعناصرها موضوع ضمن دائرة فرش أرضية ملائمة للأميركيين دولياً للإشهار بضرورة العلاقة الجيدة مع روسيا من أجل حل الملفات الكبرى، وإلا فإن لا حل من دون هذا التعاون المباشر.
وحده الأمين العام للأمم المتحدة الذي يقع على عاتقه ضمان نجاح المبادرات الدولية لعملية السلام في سورية وغيرها، قادر أن يريح الأميركيين ويجد المخرج الشكلي المناسب لمرحلة تعاون أميركية روسية متوقعة، لكن منتجة هذه المرة تخلص الى اعتراف أميركي بانتهاء زمن الأحادية في التسويات والدخول في مرحلة التفاهمات على قاعدة الاعتراف بالآخر وحضوره السياسي.
واشنطن تتخفّى تحت عباءة الأمم المتحدة لعلاقة أفضل بروسيا.