قد يكون النظام السوري الوحيد بين الأنظمة العربية التي عصف بها ما يسمى بـ’’الربيع العربي‘‘ الذي خرج من عاصفة "التطرف الديني" التي خربت المنطقة ولا زالت تهدّد كياناتها السياسية على اختلافها. وسوريا شئنا أم أبينا أعطت صورة فعلية عن النهج التدميري للتطرف الديني الذي لا يبني دولة ويفكّك النسيج الإجتماعي ويلغي الآخر. وبهذا المعنى قد تكون التجربة السورية أكثر من مفيدة رغم قساوتها ومرارتها لأنها تجعل "التطرف الديني" من دون "بيئة حاضنة" ما يفترض معالجة فعلية للأسباب التي ولَّدت هذا التطرف الذي جلب إلى المنطقة كل معطيات التدخلات الدولية وجعلها مسرحا له وللإشتباك فيه. وهكذا أصبح السؤال الأساسي حاليا هو في نوعية التسوية السياسية التي يعمل عليها اللاعبان الأميركي والروسي وطبيعة الهوية للنظام الجديد وهل هناك إمكانية فعلية لنظام علماني يطمح إليه اللاعبان المذكوران. وكبف يمكن إحياء الطبقة المتوسطة التي في مقدورها إعادة إنتاج توازن اجتماعي دمَّره "التطرف الديني" والتدخلات الدولية.
لا شك أن الأسئلة لخروج سوريا من أزمتها ليست سهلة على الإطلاق حتى على الطرفين الأميركي والروسي. فالرغبة الأميركية-الروسية في بناء نظام علماني تعترضه مقاربة خاطئة في المجتمع السوري تربط بين العلمانية والإلحاد ومواجهة مثل هذه المقاربة الخاطئة تفترض توضيحا وشرحا واسعا وتقديم فكرة العلمانية بشكل صحيح لا يتعارض مع القيم الدينية خصوصا وأن القيم الدينية والعلمانية تلتقيان في بعدها الإنساني والإيماني. ومثل هذا التلاقي تجرأ بين رجال الدين على طرحه المطران الراحل غريغوار حداد الذي يمكن الإستفادة من طروحاته الفكرية الفذة والفنية. ولذا هل من الضروري الإصرار على طرح "نظام علماني" أم يمكن الإكتفاء بطرح "دولة مدنية" لا تشكّـل نفورا وتتجاوز الإستعصاءات التي يبديها بعض رجال الدين عن جهل للقيم العلمانية. وفي هذا المجال فإن التحضير لاستقبال المتغيرات والمرحلة المقبلة يفترض بالضرورة إبراز القيم المشتركة بين الديانات السماوية على قاعدة أن ما عمّمه "التطرف الإسلامي" يتناقض كليا مع هذه القيم. وفي هذا السياق ينبغي التعامل بحذر مع الأمر بحيث يكون "الكتاب الديني" في المرحلة الإبتدائية للتعليم يعكس فعلا القيم المشتركة بين الديانات حرصا على المواطنة الواحدة التي وحدها قادرة على إلغاء الهواجس والمخاوف والتوترات الإجتماعية والطوائفية. وهذه الناحية تلزم باتخاذ موقف من الأحزاب الدينية والطوائفية على اختلافها والتي تروّج لسقوط الفكر القومي والمدني والعلماني.
في كل الأحوال الشراكة الأميركية-الروسية في التسوية السياسية في سوريا ستنتج نظاما سياسيا قويا يدفع بالدول الاقليمية على اختلافها من تركيا وايران ومصر والسعودية لحجز مقعد لها بدرجات نفوذ متفاوتة ما يحرر "الإرادة السياسية" السورية من الوصايات. وتحرير مثل هذه الإرادة شرطه الأساسي الوصول إلى قواسم مشتركة بين النظام والمعارضة وتقديم المصلحة السورية على سواها واسقاط بعض الأوهام السياسية القائلة بـ"رحيل الرئيس بشار الأسد" كما تروّج بعض قيادات المعارضة التي لا تملك أوزانا فعلية على الأرض وفي الميدان والتي لا زالت ترتبط بأجندات أجنبية ولم تقرأ طبيعة التحولات.
أيا يكن الأمر السلم الأهلي في سوريا يطلق عملية البناء في وجوهها المختلفة: إعادة إعمار البنية التحتية، عودة المهجرين، ترميم العلاقات بين المكونات، إطلاق العمل الحزبي، الإصلاح الإداري والسياسي، إستعادة دور سوريا في المنطقة كنموذج للتلاقي الأميركي-الروسي... لكن عملية البناء ليست سهلة بدورها كون الحرب هدَّمت أكثرية المؤسسات والمدارس والمنازل وآبار النفط والمستشفيات وعطّـلت شبكات الكهرباء والماء وأحالت إلى البطالة الكثير من العاملين... فالمجتمع السوري قبل الأزمة كان يرتكز إلى طبقة وسطى واسعة كادت حاليا أن تختفي ولم يبق منها إلا موظفي الدولة التي أدّى انهيار الليرة السورية إلى إلحاق أذى اقتصادي كبير فيهم خصوصا وأن ما قبل الأزمة كانت سوريا تنعم بمكاسب ’’المرحلة الإشتراكية‘‘ والتقديمات والضمانات الإجتماعية. ومن هنا فإن إحدى الإشكالات الأساسية التي سيواجهها النظام هي في كيفية إعادة تكوين الطبقة الوسطى ما يعني أن الأزمات الإجتماعية ستبقى قائمة إذا لم يكن هناك مساهمات من الشريكين الأميركي والروسي اللذين يحتاجان إلى استقرار سوري في إدارة مصالحهما وفي احتواء النفوذين الإيراني والتركي اللذين يلتقيان في التحفظ على علمانية التوجّه لواشنطن وموسكو.
أخيرا يرى الرئيس السوري الدكتور بشار الأسد على أن العروبة هي هوية وانتماء. والحقيقة أن هذه الهوية هي القاسم المشترك بين النظام والمعارضة الوطنية المعتدلة. إنما هنا أيضا تثبيت هذه المعادلة تعترضه قوى التطرف الإسلامي وبعض المكونات الاتنية ودعاة "الحل الإسلامي" ودوله. ومع ذلك فإن الجيش السوري الذي يرمي إلى إنجاز السيادة السورية حتى الحدود الدولية يحظى بالكثير من الإهتمام الدولي والاقليمي في مرحلة إعادة البناء، إذ سيكون الضامن الفعلي لمواجهة الظواهر السلبية المواكبة.