في خطوة لا تبدو مفاجئة، أعلن ما يسمى "مجلس دير الزور العسكري"، وهو جزء من قوات سوريا الديمقراطية "قسد"، عن بدء حملة سمّاها "عاصفة الجزيرة"، لتحرير ما تبقى من "أراضٍ في الجزيرة السورية، وشرق الفرات، والمناطق الشرقية بريف دير الزور من سيطرة "داعش"".
لعل هذا الإعلان يعيد إلى الأذهان ما كان قد أعلنه المتحدث باسم التحالف الدولي؛ ريان ديلون، بأن أي عملية مرتقبة باتجاه مناطق دير الزور، هي رهن بنهاية معركة الرقة من جهة، وبـ«أهداف تحركات القوات الحكومية السورية هناك خلال الفترة المقبلة»، وهكذا يكون هجوم قسد مؤشر إلى أن الأميركيين لم "يهضموا" انتصار الجيش السوري وحلفائه في دير الزور وفك الحصار عن المدينة، ويعطي أهمية كبرى لتحرير دير الزور، خصوصاً بعدما قام التحالف بهجومات تحذيرية لمنع الدولة السورية من تلك المنطقة والسيطرة عليها وإعادة ربط العراق بسورية، ومنها المجزرة التي حصلت بعدما قامت طائرات التحالف الغربي بقصف مواقع الجيش السوري في جبل الثردة، واتخاذ التحالف الغربي من معبر التنف مقرًا له، وإقامة قاعدة عسكرية، وقصف وتهديد القوات السورية المتَّجهة إلى المعبر، بذريعة حماية قواتها الموجودة هناك، وإسقاط طائرة سورية في منطقة الرصافة، واستمرار التحالف في استهداف الأرتال المتقدّمة للجيش السوري وحلفائه في المنطقة...
ولعل إعلان "قسد" الأخير، وتحويل وجهة عملياتها من الرقة إلى دير الزور، يشير إلى أن للأميركيين أهدافاً استراتيجية في البادية السورية لن يتخلوا عنها بسهولة دون قتال، ولعل أبرزها:
1- منع الجيش السوري وحلفائه من إعادة ربط الحدود العراقية السورية، فالسيطرة على التنف وإبقاء قاعدة عسكرية فيه، يعني استمرار قطع طريق بغداد - دمشق، وما يعنيه من فوائد اقتصادية واستراتيجية وسياسية للبلدين، ولكنه بالتأكيد لا يعني قطع التواصل الجغرافي الاستراتيجي والعسكري الذي تحتاج إليه طهران لوصل بغداد ببيروت، في حال استطاع الجيش السوري وحلفائه السيطرة على مساحات أخرى من البادية السورية، وهو ما حصل فعلاً.
2- يحتاج الأميركيون إلى إبقاء سيطرة فعلية على مناطق الشمال السوري، وهي المناطق التي يسيطر على الأكراد، وذلك لما في ذلك من أهمية لناحية إبقاء قواعد عسكرية في منطقة استراتيجية على حدود مع العراق وتركيا وسورية، ولعرقلة مدّ أنابيب الغاز الإيراني ومنعها من الوصول إلى شواطئ البحر المتوسط.
3- التهديد الذي أطلقه الجنرال روبرت جونز للجيش السوري، وتحذيره بعدم عبور نهر الفرات، يعني أن الولايات المتحدة الأميركية تريد طرد "داعش" من تلك المنطقة، وإحلال الكرد فيها، وذلك لما فيها من موارد نفط وغاز، مع ما يعنيه ذلك من استمرار تهديد الأتراك بكونتون كردي قادر على البقاء، بعد حصوله على نفط وغاز البادية في دير الزور، يضاف إلى ما يسيطر عليه الأكراد من نفط وغاز في المناطق التي سيطروا عليها، خصوصاً في حقول رميلان.
4- يحتاج الأميركيون إلى أوراق قوة تفاوضية تسمح لهم بالذهاب إلى المفاوضات على مستقبل سوريا وبيدهم ما يفاوضون عليه لتحقيق مكاسب سياسية لم يستطيعوا الحصول عليها في الميدان، فالانتصارات الميدانية التي حققها الجيش السوري وحلفاؤه، وخروج سيطرة الحكومة السورية من زجاجة "سورية المفيدة" إلى استراتيجية استعادة كامل التراب السوري، يؤشرون إلى سقوط المشروع الأميركي بتقسيم سوريا، ويؤكد بشكل نهائي عدم قدرة الغرب على إسقاط النظام السوري أو حشره في مساحة جغرافية ضيقة؛ حيث البحر من أمامه والمجموعات المسلحة من ورائه.
إذًا، في السباق نحو دير الزور بين كل من الجيش السوري وحلفائه، وقوات سورية الديمقراطية المدعومة من التحالف الغربي، يتجلّى صراع الإرادات الدولية بكل تفاصيله، فمنطقة البادية السورية التي تبدو كصلة وصل بين كل من سورية والعراق وتركيا، ونهر الفرات الذي يُعتبر حداً فاصلاً يضع القوى الدولية والإقليمية خطوطًا حمراء للأعداء على ضفافه، يرسم مستقبل سورية والشرق الاوسط، لكن تجارب ست سنوات من عمر الحرب السورية تنبئ بأن المخططات الدولية ليست قدَرَاً، وأن قُدرة القتال لدى السوريين وحلفائهم استطاعت كسر العديد من الخطوط الحُمُر الموضوعة أمامها في الوقت المناسب، وبخطة وظرف إقليميَّين ودوليَّين مناسبَين.
في النتيجة، الانتصار في دير الزور يُسدل الستار على فصل من فصول الحرب السورية، ويؤشر إلى بداية نهاية الحرب، لكنها بالتأكيد ليست المعركة الأخيرة، فأمام السوريين معارك أخرى قد يكون أسهلها التخلُّص من المجموعات الإرهابية المسلحة، ولعل أصعبها على الإطلاق: إخراج القواعد الأميركية العسكرية من الجغرافيا السورية، وهي معركة من طبيعة مغايرة تماماً للمعارك الأخرى، فقد يحتاج إلى تنازلات سياسية ودبلوماسية، أو عقود نفط ومشاريع إعمار، أو غير ذلك.