لم تكن الأزمة العميقة للدولة اللبنانية في يوم من الأيام مرتبطة بالمديونية العامة أو بالدوائر الانتخابية وتوزيع المقاعد الانتخابية أو في صناعة بطاقة ذكية وغيرها من القضايا التي تعكس سطح الأزمة لا جوهرها المضني المزمن. الأزمة بنظري مرتبطة أولاً بصلاحية الطبقة الحاكمة على الحكم، وثانياً بالأسس الثقافية بوصفها المنظّم والمحرّك للمجتمع اللبناني ليقوم بواجباته في مسيرة البناء والإصلاح والتطوير والانخراط في دورة التاريخ بفعالية عالية.
لقد أضعنا الكثير من الوقت في النقاشات والإدانات وردود الفعل على قضايا مطلبية يدور حولها الصراع على مصالح بين طبقات الشعب المختلفة أو بالأحرى بين طبقتين: الأولى مهيمنة ولديها نفوذها في مؤسسات الدولة، والأخرى ضعيفة ولا مجال لديها سوى الشارع لترفع صوتها بالاحتجاج. ولكن المشكلة العميقة تبقى على حالها بدون التفات وعناية سواء فاز هذا الطرف أو ذاك، طالما أنّ النظام الذي يسيّر المجتمع راسخ رسوخ الجبال. فمن أين ستأتي الفعالية، ومن أين سيأتي السلوك الذي ينهض بالأفراد والمجتمع ما دامت الثقافة المسيطرة على اللبنانيين جميعاً لا تغيّر شيئاً من أسلوب الحياة ووعيهم ومقاربتهم قضاياهم الأساسية. فليس هناك من ثقافة عامة يمكنها أن تصحّح اختلال الأفراد لو أخطأوا ولا الجماعة إذا انحرفت. على سبيل المثال: يسرق وزير، أو يقوم بصفقة مشبوهة تدّر عليه ملايين الدولارات، أو يقصّر في أداء مهامه الوظيفية، أو يتعامل سينمائي مع عدو «إسرائيلي»، أو سياسي مع عدو تكفيري، أو تقوم وسيلة إعلامية بتحريض مذهبي أو وضع خريطة «إسرائيل» على شاشتها، بدلاً من خريطة فلسطين من دون أن يحدث شيء على الإطلاق، فثقافة الرقابة والمحاسبة مفقودة تماماً. ثم يقوم حزب أو مجموعة أحزاب وبشكل علني بالتحريض على دولة بيننا وبينها ميثاق الأخوة واتفاقات ملزمة بالتعاون والتنسيق السياسي والاقتصادي والعسكري. وهو الأمر الذي يهدّد الأمن والاستقرار على نحو أكيد، ومع ذلك لا تحصل تدابير تؤدّي إلى إيقاف الانحراف والخطأ في السلوك. المشكلة بيّنة من الأعطاب الثقافية، حيث لا معايير يُعرف من خلالها الخطأ من الصواب ولا الصديق من العدو، ولا التحريض من الموقف السياسي الحرّ، ولا العمالة من العلاقة القائمة على مصالح الهوية والتاريخ والحق.
نحن لا نمتلك ثقافة على مستوى الأفراد والجماعة نعرف من خلالها مثلاً أنّ الانسجام بين الطوائف أساس وجود الوطن وأنّ الانتماء إليه يفرض على اللبنانيين واجبات تمنع حدوث انقسامات طائفية وسياسية تهدّد البنيان الذي انبنى عليه المجتمع اللبناني. نحن لا نمتلك ثفافة الدفاع عن سيادتنا من الأعداء، ولا مكافحة الفساد، ولا محاكمة المفسِدين، ولا الحفاظ على الثروات العامة، ولا احترام المواطن وكرامته في أبعاد حياته كلّها… والشواهد كثيرة في هذا المجال. لذلك نحن نشعر أننا في هذا البلد وكأننا في أوطان متعدّدة وفي مجتمعات متعدّدة وفي قضايا لا نرتبط بها مع بعضنا البعض. قضايا تخصّ جماعة أو حزباً، ولكنها لا تهمّ الجميع. وما يحلّ مشكلتنا وأزمتنا العميقة هو أن نبني لأنفسنا ثقافة قوية يتوحّد من خلالها المجتمع ويتفاعل بطريقة منظمة نحو تحقيق أهدافه الحضارية. هذا ما نريده قبل أن نبحث في تصحيح خلل هنا وخلل هناك، فطالما أننا لا نملك ثقافة ندفع بها غائلة الانقسام والتبعثر والطائفية، فسنبقى نرزح في مستنقعات لا نخرج منها إلا برحمة من الله وقدرته.