"نعم، تخطي الانتخابات الفرعية خرق للدستور... إنما لِمَ لم تقم الضجة سابقاً"؟.
بهذه العبارات، أقرّ رئيس الحكومة سعد الحريري في الجلسة التشريعيّة الأخيرة بأنّ عدم إجراء الانتخابات الفرعيّة هو "خرقٌ للدستور". لم يناقش الأمر ولم يبرّره، ووجّه كلّ اهتمامه ليسأل عن أسباب الضجّة المُثارة حول الموضوع اليوم، وليس في السابق، وتحديدًا عند استقالة النائب روبير فاضل.
قالها الحريري بوضوح. هو يدرك أنّ القانون يلزم حكومته بإجراء الانتخابات الفرعيّة، لكنّ مشكلته، السياسية ربما، هي مع أولئك الذين يطالبونه اليوم بالتحديد بتطبيق هذا القانون، لمآرب سياسيّة ربما. لكن، أبعد من القراءة السياسية الضيقة لهواجس الحريري، الذي يعرف القاصي والداني أنّه ليس متحمّسًا لأيّ استحقاقٍ انتخابيّ اليوم، ماذا يعني أن يقول ما قاله؟ ماذا يعني أن يعترف رئيس الحكومة بمخالفة القانون، بكلّ هذه البساطة؟!.
الاعتراف سيّد الأدلة
قد يكون مفاجئًا بالنسبة لكثيرين أن يخرج رئيس الحكومة سعد الحريري بالتصريح الذي خرج به خلال الجلسة التشريعية الأخيرة، خصوصًا أنّ الرجل لطالما حرص على تجنّب مقاربة ملفّ الانتخابات الفرعيّة، من قريب أو من بعيد، وهو لم يتطرّق إليه حتى في جلسة المناقشة العامة في المجلس النيابي مؤخرًا، على الرغم من أنّ عددًا من النواب طرحوا عليه أسئلة واضحة حول الموقف من هذه الانتخابات في مداخلاتهم، ومن بينهم رئيس حزب "الكتائب" النائب سامي الجميل والنائب بطرس حرب.
ويرتبط هذا الحرص من جانب رئيس الحكومة بشكلٍ رئيسيّ بكون أصابع الاتّهام أصلاً موجّهة إليه بأنّه عمليًا من سعى إلى "تطيير" الانتخابات الفرعيّة، خصوصًا أنّ عاصمة الشمال طرابلس كان يفترض أن تشكّل إحدى ساحاتها الأساسية، لملء مقعدين شاغرين كانا أصلاً من حصّة "التيار الأزرق". وإذا كان الحريري غير جاهزٍ للانتخابات بالمطلق، وهو الذي لم يخرج من أزماته المتشعّبة بعد، بل إنّ البعض يقول أنّه لن يكون جاهزًا حتى في الموعد المقرّر للانتخابات النيابية في شهر أيار المقبل، فكيف بالحري في مدينة طرابلس بالتحديد، التي قد تكون "الحلقة الأضعف" بالنسبة إليه اليوم، وهو الذي يحيط به "الخصوم" من كلّ حدبٍ وصوب، بدءًا من الوزير السابق أشرف ريفي، الذي يمنّي النفس بتكرار "الانتصار" الذي حقّقه في الانتخابات البلدية الأخيرة، ورئيس الحكومة السابق نجيب ميقاتي، الذي لم يشف غليله بعد من "الثأر السياسي" من "المستقبل" وكلّ من يدور في فلكه، من دون أن ننسى الوزير السابق فيصل كرامي وغيره من الشخصيات.
من هنا، يمكن القول أنّ الحريري، بتصريحه في مجلس النواب، أكّد المؤكّد، من حيث يقصد أو لا يقصد، ولم يترك مجالاً للشكّ أنّه على الصعيد الشخصي، ليس متحمّساً ولا جاهزًا لانتخابات فرعية في هذا التوقيت بالتحديد، بل قد يكون أكّد أيضًا، وإن بصورةٍ غير مباشرة، أنّه من دفع "التيار الوطني الحر"، ومن خلفه رئيس الجمهورية العماد ميشال عون، إلى "غضّ النظر"، في أفضل الأحوال، عن هذه الانتخابات، وإن كان قياديّوه يجاهرون بضرورة إجرائها، من دون أن يترجموا أقوالهم إلى أفعال. لكن، أبعد من ذلك، قد لا يكون مبالغًا به القول أنّ الحريري لم يكن يقصد أن يقول ما قاله، بدليل أنّه يدينه ويضرّه أكثر ممّا ينفعه، باعتبار أنّ الاعتراف هو سيّد الأدلّة، بل إنّ هناك من يقول أنّه يندرج في سياق الصراع غير المعلن بينه والرئيس عون من جهة ورئيس مجلس النواب نبيه بري من جهة ثانية، الذي عمد لاستفزازه بقوله في إشارة للانتخابات الفرعيّة "تخبزوا بالأفراح"، فضلاً عن دعوته لانتخاباتٍ مبكرة، الأمر الذي شعر الحريري معه وكأنّه "مُستهدَفٌ" بشكلٍ أو بآخر.
هل من آليّة للمحاسبة؟
هكذا، اعترفت السلطة، التي تتقاذف منذ مدّة ملف الانتخابات الفرعيّة من جلسة لمجلس الوزراء إلى أخرى بحججٍ وأعذار واهية، قد يكون أكثرها ابتكاراً "ضيق الوقت"، بأنّ القصّة ليست قصّة "مهل تستنفد" أو "عدم جهوزية لوجستية"، وأنّ القصّة سياسيّة ليس إلا، علمًا أنّ ذلك واضحٌ منذ قرّر وزير الداخلية نهاد المشنوق أن يسجّل على نفسه "سابقة" برفضه توقيع مرسوم دعوة الهيئات الناخبة، باعتباره إجراءً عاديًا وروتينيًا يفرضه القانون، منتظرًا توافقًا سياسيًا هو يعرف أنّه لن يأتي، جاعلاً استحقاقاً انتخابياً مبدئيًا خاضعًا لمزاجية السياسيين.
ولكن، ماذا بعد هذه الاعترافات التي لا تحتمل اللبس؟ وهل من آلية للمحاسبة؟
الأكيد بدايةً أنّ المسؤوليّة عن هذه المخالفة القانونية لا يتحمّلها الحريري وحده، ولو كان هو "المحرّض" لها، كما يقال همسًا ولمزًا، ولا وزير الداخلية والبلديات نهاد المشنوق وحده، باعتباره الوزير المعنيّ الذي لم يبادر للقيام بمسؤولياته بدعوة الهيئات الناخبة، تفاديًا كما أصبح واضحًا لإحراج رئيس الحكومة، والأهمّ، تفاديًا لإحراج رئيس الجمهورية، الذي توازي مسؤوليته هنا مسؤولية الرجلين، بل تفوقهما كونه المؤتمن على الدستور، ما يعني أنّ اكتفاء الأخير بـ"غضّ النظر" لا يعفيه من أيّ مسؤوليّة على هذا الصعيد.
أما آلية المحاسبة، فهي أيضًا متوافرة من خلال ما يسمّى بالمجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، والذي يُعَدّ خرق الدستور من الجرائم التي ينظر فيها بموجب الدستور، إلا أنّ الأخير "ربط" آلية المحاسبة هذه بمجلس النواب المخوّل وحده توجيه مثل هذه الاتهامات، بموجب قرار يصدره بغالبية ثلثي مجموع أعضائه. وبنتيجة ذلك، فإنّ الواقعية السياسية لا تترك مجالاً للشكّ بإمكان المحاسبة، ليس فقط بناءً على التجربة، و"الحصانة" التي يتمتّع كلّ من هو فاعل في الشأن العام، بل لأنّ التوافق السياسي كفيلٌ بتبسيط الأمور، وتحويل "خرق الدستور" باعتراف الجميع إلى أمر بديهيّ ومسلّمٍ به...
"تخبزو بالأفراح"...
"تخبزو بالأفراح"... قالها رئيس المجلس النيابي نبيه بري في إشارةٍ للانتخابات الفرعيّة، فاستفزّ من استفزّ ربما، إلا أنّه عبّر عن واقعٍ لم يعد ينفع الهروب منه بالحديث عن ضيق وقت تارةً، أو البحث عن توافق سياسي غير متوافر تارةً أخرى.
ولعلّ ما حصل في الانتخابات الفرعية يجب أن يكون نموذجًا يأخذ اللبنانيون منه العِبَر، حتى لا تنطلي الحيلة عليهم مجدّدًا، ويتكرّر السيناريو الذي بات مملاً لكثرة تكراره في الانتخابات النيابية، وهو أمرٌ غير مستبعَد، بل بدأت العدّة له، وذلك حتى لا يأتي من يقول لهم من جديد "تخبزو بالأفراح"، ونقطة على السطر...