عملٌ إنسانيٌّ أن يدافعَ لبنانيّون عن دونالد ترامب فيما لا يَجِد من يؤيّده في أميركا. إذا كان الرئيسُ ترامب، في خطابِه في الأممِ المتّحدة (19 أيلول 2017)، لم يَقصِد توطينَ النازحين، وأنَّ الخطأَ هو في الترجمةِ لا في الموقِف، فما على الإدارةِ الأميركيّة إلا أن تُصدِرَ بياناً تَشرح فيه موقفَها الحقيقيَّ، خصوصاً أنَّ هذا الموقفَ ليس الأوّلَ من نوعه، وهو يتناقضُ مع محبةِ السفيرة إليزابيت ريتشارد للبنان وجهودِها لتحييدِه عن الصراعات.
وإلى حين صدورِ هذا البيان، أكتب:
كيف توفِّقُ الولاياتُ المتّحدة الأميركيّة بين دعمِها الجيشَ اللبنانيّ وبين تأييدِها توطينَ اللاجئين والنازحين، فلسطينيّين وسوريّين، في لبنان؟ القرارُ الأوّلُ يعزِّز الدولةَ اللبنانيّة فيما القرارُ الآخَر يُنهيها.
وكيف توِّفقُ الولاياتُ المتّحدة الأميركيّة بين حِرصِها التقليديّ على سيادةِ لبنان واستقلالِه ونظامِه الديمقراطيّ، وبين استباحةِ أراضيه وصيغتِه وديمغرافيَّتِه وتوازنِه فتُقرِّر رَغماً عن اللبنانيّين إضافةَ شعبَين آخَريْن عليهم؟ وكيف يوفِّق ترامب بين تركيزِ حملتِه الانتخابيّةِ الرئاسيّة على طردِ الغرباءِ من أميركا وبناءِ جدارٍ مع المكسيك، وبين طلبِه إلى لبنان توطينَ الغرباء؟
وعدُ ترامب اللاجئين بإعادةِ توطينِهم في الدولِ القريبةِ من بلدانهم هو، بدايةً، موقفٌ غيرُ أخلاقيٍّ ويَنُمُّ عن احتقارِ حقوقِ الشعوبِ والدول. فتوطينُ نُصفِ مليونِ فلسطينيٍّ ونحوَ مليونَي سوريٍّ في لبنان يوازي قصفَ الشعبِ اللبنانيِّ بأسلحةِ الدمارِ الشامِل.
لا مبالغةَ البتّةَ في هذه المقارنة لمّا نكتشفُ أن التوطينَ يُخفِّض نسبةَ اللبنانيّين إلى نحو 32.5% من عددِ المقيمين، إذ إنَّ نحو 67،5% من سكّانِ لبنانَ حالياً هم سوريّون وفِلسطينيّون بين لاجئٍ ونازحٍ ومُجنَّس.
كلامُ ترامب خطيرٌ لأنّه موقفُ الإدارةِ الأميركيّة منذ عهدِ الرئيسِ أوباما، وهو يَلتقي مع موقفِ الأممِ المتّحدة وما يَتفرّعُ عنها من منظّماتٍ، ومع المجتمعِ الدوليّ عموماً بما فيه البنكُ الدوليّ ومجموعةُ الدولِ المانِحة والاتحادُ الأوروبيّ.
فكل الوثائق، على مدى السنوات الأربع الماضية، تَكشف أنَّ دمجَ النازحين السوريّين في المجتمعاتِ المضيفةِ هو النهجُ الأميركيُّ والدوليّ (ومَن يَندمِج يبقى). وبالتالي، حان وقتُ مقاومةِ مشروعِ التوطين عوضَ اعتبارِه فَزّاعة.
1- في 02 حزيران 2014 وصل إلى بيروت رئيسُ البنكِ الدوليّ جيم يونغ كيم وأعلن استعدادَه لتوفيرِ الأموالِ اللازمةِ «لاستقرارِ النازحين مرحليّاً» في لبنان. ثمَّ قَدّم البنكُ الدوليّ أوراقَ عملٍ تَربُط بين القروضِ وإعطاءِ فرصِ عملٍ للنازحين.
2- في 08 كانون الأول 2014 استضافت منظّماتُ الأممِ المتّحدة في جنيف مؤتمراً بعنوانِ: «إعادةُ توطينِ النازحين السوريّين إلى دولِ أخرى». وكُلِّفَت المفوضيّةُ العليا لللاجئين ومنظمةُ العملِ الدوليّ تسويقَ المشروعِ تحت مُسمَّياتٍ مختلِفة.
3- في 04 أيلول سنةَ 2015 قال رئيسُ حكومةِ بريطانيا السابق دايفيد كاميرون في ليشبون ـــ البرتغال: «يجب أن يبقى النازحُ في مكانٍ قريبٍ من سوريا من دون أفْقٍ زمنيٍّ لإعادةِ توطينه». وفي 04 آب 2015، صرّح السفيرُ البريطانيُّ السابق في لبنان، طوم فليتشر، قبيلَ مغادرتِه بيروت أنَّ «خطرَ توطينِ النازحين السوريّين في لبنان ليس وَهماً».
4- في 14 كانون الأول 2015 قام مساعدُ وزيرِ الخارجيّةِ الأميركيّة لشؤونِ السكّان واللاجئين، سايمون هانشاو، بزيارةِ لبنان لإقناعِ المسؤولين اللبنانيّين باعتمادِ منهجيّةِ دمجِ النازحين السوريّين في المجتمع ِاللبنانيّ، ولاسيما في سوقِ العمل.
5- في 04 شباط 2016 عقدت الدولُ المانحةُ مؤتمرَ لندن ومارست ضغوطاً على الحكومةِ اللبنانيّةِ لتأمينِ سكنٍ وعملٍ وتعليمٍ للنازحين.
6- في 24 آذار 2016 زار الأمينُ العامّ للأممِ المتّحدة، بان كي مون، لبنانَ مع رئيسِ مجموعةِ البنك الدولي، جيم يونغ كيم. وتمحورت محادثاتُهما على محاولةِ إقناعِ الحكومةِ اللبنانيّة بدمجِ النازحين السوريّين (يعني توطينَهم). رفضَ تمام سلام العرضَ، وأصدرَ مجلسُ الوزراء في 19 أيار بياناً يؤكّد بالإجماعِ «رفضَ توطينِ النازحين السوريّين ودمجِهم وتجنيسِهم، وأن الحلَّ الوحيدَ هو عودتُهم السريعةُ الى وطنِهم».
7- في 19 أيلول 2016 أصدرَ أمينُ عامّ الأممِ المتّحدة السابق، بان كي مون، تقريراً بعنوان: «في السلامةِ والكرامة - كيفيّةُ التعاملِ مع أزمةِ النازحين واللاجئين»، فدعا فيه الدولَ المستقبِلَة إلى «دمجِ اللاجئين» (الفقرتان 38 و64)، واتّباعِ «سياساتِ استيعابٍ وطنيّةٍ لهم، وإصدارِ الوثائقِ المتعلّقةِ بتسجيلِهم» (الفقرة 73)، و«توسيعِ فُرصِ حصولِهم على عملٍ قانونيّ» (الفقرة 81)، و«منحهمِ وضعاً قانونيّاً يُتيح لهم الفرصةَ ليُصبِحوا مواطنين بالتجنُّس» (الفقرة 86).
8- في 20 أيلول سنةَ 2016 دعا الرئيسُ الأميركيُّ آنذاك، أوباما، إلى «مؤتمرِ اللاجئين» على هامشِ انعقادِ الجمعيّةِ العامّة للأممِ المتّحدةِ في نيويورك بدورتِها الـ 71 ليَطرحَ على قادةِ الدولِ المانحةِ «مشروعَ إنهاءِ أزمةِ اللاجئين من خلال دمجِهم في المكان الموجودين فيه».
9- طَوال سنتَي 2015/16 تدفَّق على لبنان رؤساءُ دولٍ وحكوماتٍ ووزراءُ ليتفقَّدوا أماكنَ سكنِ النازحين السوريّين ووعدوهم بالأموالِ ليثبُتوا في لبنان فلا يهاجرون إلى أوروبا.
تؤكّد هذه المعطيات، وهي غَيضٌ من فَيضٍ، أنَّ توطينَ اللاجئين والنازحين هو المشروع الدولي، وليس كلامُ ترامب، بالتالي، خطأَ ترجمةٍ كما يحلو لبعضِ المسؤولين اللبنانيّين أن يدّعوا ليُغطّوا تقاعسَهم ومصالحَهم.
شعبُ لبنان القلِق على مصيرِه ينتظر أنْ تراجعَ الدولةُ اللبنانيّةُ كلَّ سياستِها المتَّبعة حيالَ اللاجئين الفِلسطينيّين والنازحين السوريّين دونَ خجلٍ وحَرج. وفي هذا الإطار أقترح:
أولاً: أن تُعلنَ الحكومةُ اللبنانيّةُ «حالةَ طوارئ» ضد التوطينَين، السوريّ والفِلسطينيّ، فتضعَ موضِعَ التنفيذ الخطابَ المميَّز الذي ألقاه رئيسُ الجمهوريّة أمام الجمعيّةِ العامَة للأممِ المتّحدة في 21 أيلول الجاري.
ثانياً: أنْ يُقدِّمَ لبنان إلى جامعةِ الدولِ العربيّة والأممِ المتّحدةِ ومجلسِ الأمنِ الدوليّ مشروعين: أحدُهما يتعلّق بإعادةِ انتشارِ اللاجئين الفلسطينيّين على دولٍ عربيّةٍ وأجنبيّةٍ قادرةٍ على استيعابِهم وتأمينِ الحياةِ الكريمةِ لهم. والآخَرُ يتعلّق بإرجاعِ النازحين السوريّين فوراً إلى بلادهم.
ثالثاً: أنْ تُعطيَ الحكومةُ اللبنانيّة المجتمعَ الدوليَّ مدّةَ ثلاثةِ أشهرٍ لتنظيمِ قوافلِ عودةِ السوريّين، وإلا قامت هي بالمُهمّةِ، وقد تدرَّبت جيّداً على ذلك مع النُصرةِ وداعش. وواثقٌ أن الحكومةُ السوريّةُ لن تردَّ شعبَها العائدَ والمُعاد.
لبنانُ الذي خَرجَ من القائمقاميَّتين إلى المتصرفيّةِ فإلى لبنانَ الكبير، يَخشى أن يعيدَه «التوطينان» إلى الوراء. فلا قيمةَ لوِحدةِ الأرضِ من دونِ هويّةٍ وطنيّةٍ وتوازنٍ إنسانيّ.