أضحت الازدواجية في المواقف التي تعاقبت الإدارات الأميركية على اعتمادها فيما خص منطقتنا العربية، واضحة لا لبس فيها، وذلك بما يتناسب مع ضمان مصالحها ومصالح العدو الإسرائيلي، من دون اعتبار لمصالح شعوب الوطن العربي، بيد أن هذه الإدارات عملت ولم تزل تعمل على زرع الفوضى وإثارة الفتنة وبث الفرقة من خلال إذكاء النعرات الطائفية والمذهبية والإثنية والعرقية والعشائرية في المنطقة العربية، إضافة إلى سعيها الدؤوب لإقامة كيانات إثنية متعددة تهدد بفرط عقد دولنا ومؤسساتنا وتحويلها من دول إلى كيانات متناحرة متحاربة تسهم في تفكيك وتفتيت وتشريد مجتمعاتنا العربية ومحو الحضارات وإلغاء التواصل مع مجريات التاريخ والعمل على إضعاف وضرب الجيوش العربية وخصوصاً التي تربطها الجغرافية مع حدود فلسطين المحتلة، وتهدد أمن الكيان الصهيوني، ولو وجدت تلك الجيوش العربية بعيدة عن فلسطين المحتلة.
ولو بحثنا مطولاً في التاريخ لوجدنا أن الهدف من تلك الازدواجية الأميركية الممارسة، هي للإبقاء على التفوق العسكري والتكنولوجي والتقدم العلمي للعدو الإسرائيلي في منطقتنا العربية.
قلنا منذ اندلاع أحداث ما سمي «الربيع العربي» أن تلك الأحداث هي صناعة أميركية بامتياز، الهدف منها زرع الفوضى في بلادنا وسلخنا عن تاريخنا وحضارتنا ووضع شعوب المنطقة في مسار تاريخ جديد يقود شعوبنا للكفر بكل ما سبق وإجبارنا على التطلع نحو مستقبل غامض مملوء بالتقاتل والفوضى والدماء والتشرد فيدفعنا نحو القبول بالاستسلام والخنوع للإرادة الأميركية الصهيونية، التي أوهمت شعوبنا أن تلك الإرادة الأميركية تعمل لمصلحة الشعوب في ممارسة الديمقراطية والحرية وحماية الإنسانية.
وحدها الجمهورية العربية السورية بقيادتها وشعبها وجيشها، تنبهت للمشروع الأميركي الصهيوني المدعوم خليجياً وأوروبياً وقررت العمل على جبه المشروع بقرار سوري بحت، والعمل على تحمل أعباء الصمود وكشف خطورته وملابساته حتى إفشال المشروع الأميركي الصهيوني الأوروبي الممول خليجياً وإسقاطه برمته.
ها هو ما سمي «الربيع العربي»، وهو مشروع أميركي، بامتياز يتهاوى على الأرض السورية بعد نجاح سورية والحلفاء، في ضرب الأدوات الرئيسية التي استعملت رأس حربة في المشروع الأميركي الصهيوني التخريبي، واليوم نستطيع القول إننا أصبحنا في المربع الأخير بل في ربع الساعة الأخيرة من عمر المشروع في سورية.
ها هو وزير الخارجية السورية وليد المعلم يعلن من على منبر الجمعية العامة في الأمم المتحدة من نيويورك أن بشائر النصر في سورية أضحت قريبة جداً، وأن سورية مصممة على تحرير كامل التراب السوري من الإرهاب وأدواته مهما كلف الأمر وأن سورية لن تسمح بقيام كيانات إثنية وعرقية ودينية مهما كانت التضحيات.
أميركا وحلفاؤها أدركوا إخفاق مشروعم التدميري في سورية والمنطقة، بيد أن الصهيونية العالمية تعلن استعانتها بزعيم الأكراد في إقليم كردستان مسعود بارزاني ودفعه لإجراء استفتاء شعبي على انفصال إقليم كردستان عن العراق، وذلك لتضخ التنفس الاصطناعي في رمق المشروع التخريبي الذي شارف على نهايته ولتفتح الساحة والمنطقة على احتمالات متعددة غير منفصلة عن المشاريع المشبوهة التي أعدت لتفتيت المنطقة.
وبمنطق التحدي يصر بارزاني على إجراء استفتاء للانفصال عن العراق وهو المشروع التقسيمي التوءم الذي رافق إنشاء داعش وأخواتها ومموليها السعودية والإمارات وقطر الذين أعدوا للمنطقة مشروعا تفتيتيا بدأ في سورية ولم ينته في العراق، تفوح منه الرائحة الإسرائيلية الأميركية بعد أن ظهرت مع تجلياته الأعلام الإسرائيلية خلال احتفالات أربيل على صفحات «جيروزاليم بوست» و«معاريف» الإسرائيلية.
الأميركيون حذروا من إجراء الاستفتاء في العلن، ولكن في السر فإن التأييد الأميركي للانفصال واضح، لأن قيام الكيان الكردي يمهد للاعتراف بالكيان الصهيوني، أما الإسرائيليون فرحبوا علنا بالخطوة الكردية.
العراقيون أعلنوا التصدي للمشروع، وتركيا أعلنت التصدي للانفصال، رغم المصالح الكبرى وشركات النفط بين عائلتي الرئيس رجب طيب أردوغان وبارزاني، وإيران تعارض وتحاول بدبلوماسيتها الناعمة التوصل لحل يرضي الجميع ويراعي المصالح.
صحيح هناك إصرار من بارزاني لإجراء الاستفتاء، ولكن بكل تواضع نقول: إن إجراء الاستفتاء ونتائجه شيء، والإعلان عن الانفصال شيء آخر، لأن تشابك المصالح بين الدول المحيطة رغم الاختلاف الحاصل، لن يسمح بقيام كيان يتماهى مع المصالح الإسرائيلية في المنطقة، وجعله العقدة الكأداء في وسط الطريق الذي يمتد من إيران مروراً بالعراق وسورية وصولاً إلى لبنان، وخصوصاً بعد كل تلك التضحيات والشهداء والدماء التي بذلت في سبيل إفشال المشروع الصهيو أميركي والوصول إلى المربع الأخير فيه.
إن من أعطى الضوء الأخضر لإجراء الاستفتاء للانفصال الكردي عن العراق هو الأميركي الصهيوني نفسه الذي يستمر في محاولة إحياء مشروعه في المنطقة، لكن الأمور تغيرت والمعادلة اختلفت وبات محور المقاومة بزعامة سورية كفيلاً بالتصدي وإفشال كل المشاريع الاستسلامية التفتيتية في المنطقة.
إن من يقرأ اعترافات السفير الأميركي السابق في سورية روبرت فورد، يدرك تماماً أن اللعبة الأميركية الصهيونية قد انتهت، حيث قال: يجب علينا الاعتراف بأن مشروعنا في سورية والمنطقة قد أخفق وخصوصاً بعد الصمود الأسطوري لسورية ودعم الحلفاء إضافة إلى المساندة الروسية غير المتوقعة، جميعها عوامل أدت إلى إفشال رهاننا.
روبرت فورد أضاف: يخطئ الأكراد في رهانهم على مساندة أميركا وإسرائيل، انظروا ماذا حل بالتنظيمات الإرهابية التي استعملتها أميركا لتنفيذ مشروعها في سورية والمنطقة فهل يتعظ بارزاني أم إنه سيجعل من السليمانية المربع الأخير.